سعد الحريري في عين التينة. ليس هذا هو «الخبر». الكل يدرك أن اجتماع رئيس المجلس النيابي نبيه بري وزعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري صار أمرا بديهيا وطبيعيا. في الأصل، لا «فيتوات» تحكم علاقة الطرفين منذ عقد من الزمن.
«الخبر» هو أن يزور العماد ميشال عون مقر الرئاسة الثانية. أن ينتهي زمن من «الدلع السياسي» عمره من عمر «تفاهم مار مخايل». في كل استحقاق أكان صغيرا أم كبيرا، ثمة اعتقاد سائد عند العونيين، قيادة وقواعد، أنه يكفي التفاهم مع «حزب الله»، وهو كفيل بـ «المونة» على بري. أثبتت كل الاستحقاقات عكس ذلك. لم يضع الحزب نفسه ولا مرة في هكذا موقع، وهذه حقيقة يدركها العماد عون شخصيا.
ولو تم التعمق أكثر في الموضوع، فان طبيعة علاقة الرئيس بري بالسيد حسن نصرالله، لا تشبه علاقة أي من القادة السياسيين من أقرانهم. الاحترام المتبادل. الثقة المتبادلة. توزيع الأدوار والمهام. حتى أن «مونة» رئيس المجلس كبيرة على «السيد» الى حد تلزيم معظم الملفات الداخلية، وخصوصا المتصلة بالدولة وإداراتها وتوازناتها لرئيس حركة «أمل». في المقابل، يتحول بري الى جندي في جيش المقاومة، عندما يتصل الأمر بالخيارات الاستراتيجية، سواء على جبهة قتال اسرائيل أو القوى التكفيرية.. والأمثلة أكثر من أن تحصى وتعد.
تلقى «الجنرال» خلال عقد من الزمن مئات النصائح من «حزب الله» بوجوب فتح صفحة جديدة مع نبيه بري. «تطوع» كثيرون من محيط الرابية للعب أدوار على هذه «الجبهة»، سرعان ما احترق معظمهم، وما تبدلت الكيمياء المفقودة بين الرجلين، ولا تغيرت أدوار بعض مَن تحملوا «مسؤولية تاريخية» في تبديد وتعطيل وإجهاض كل تلك المحاولات، فكان أن تعاظمت حالة انعدام الثقة، الى أن وصلنا الى ما وصلنا اليه في يومنا هذا.
حتى في «التيار الوطني الحر»، لطالما تجرأ البعض، ومنهم العميد شامل روكز، على الهمس في أذن «الجنرال» بأنك «ستحتاج نبيه بري يوما ما، وعليك أن تبادر في اتجاهه». في معظم المرات، كان العماد عون متجاوبا، ولكن ثمة من كان ينصب الفخ تلو الآخر، الى أن جاء زمن الاستحقاق.
هل يتقدم شيء عند ميشال عون على استحقاق رئاسة الجمهورية؟
الجواب لا طبعا. برغم أن الرجل أثبت أنه ليس من صنف «المتآمرين»، وهو منذ اللقاء الأول بسعد الحريري في أوروبا في مطلع العام 2014، كان واضحا في إجاباته: ما أضمنه لك أن أقنع قيادة «حزب الله» أن تكون رئيسا للحكومة. أما القضايا الأخرى، من سلاح ومشاركة في سوريا وغيرهما، فأنت تجلس معهم على طاولة الحوار، ولكما أن تتفقا سوية على كل ما تعتقدان أنه لمصلحة البلد.
عندما تبنى سعد الحريري ترشيح سليمان فرنجية قبل سنة، كان لسان حال «الجنرال» أن اتفاقا ثنائيا بين زعيمَين سياسيين لن يكون كافيا لإنتاج تسوية رئاسية في لبنان. هذا البلد لا يحكم بالثنائيات. تركيبته لا تحتمل الا الشراكة الكاملة. ما يسري على فرنجية يسري على عون. لا يكفي اتفاق «الجنرال» مع الحريري لانتاج تسوية ما. الفرصة الرئاسية جدية أكثر من أي وقت مضى ولا بد من إنهاء الفراغ الرئاسي اليوم قبل الغد، وعلى الجميع اغتنام الفرصة المتاحة لأنها لن تكون مفتوحة زمنيا في ظل ما يشهده الاقليم من احتدام قابل للتحول الى بركان كبير.
يعني ذلك أن ميشال عون يجب أن يتحرر من عقدة رسخها حتى في ذهن جمهوره: اذا قرر «حزب الله» أمرا ما، يستطيع أن يفرضه فرضا على نبيه بري. هذه معادلة ساقطة في السياسة. التعقيدات اللبنانية تشي بضرورة التحرر من عقد الماضي والحاضر. لا يمكن اهمال أي مكون، فكيف اذا كان اسمه نبيه بري بما يمثل من موقعية دستورية ووطنية وطائفية وحتى ميثاقية بحسابات ميشال عون نفسه؟
التحرر من العقد لم يعد كافيا. ها هو سعد الحريري يتجرع السم، فيلجأ الى الخيار السياسي ـ الرئاسي الذي يمكن أن يهدد حياته سياسيا، ولكنه في المقابل، يدرك أن وصوله الى رئاسة الحكومة، بما هو فرصة لاستنقاذ وضعه السياسي ـ الشخصي، سيشكل مدخلا لاعادة صياغة علاقته بمرجعيته الاقليمية أولا ومن ثم بجمهوره، واضعا أمام نفسه تحديات تبدأ من السرايا الكبيرة لتتوج في الانتخابات النيابية المقبلة، بمعزل عما اذا كان سيصيب أم لا في خياراته الانقلابية الى حد كبير.
وها هو «حزب الله» أيضا يتجرع السم. يضع ثقته بميشال عون فوق كل اعتبار آخر. اذا كان المعبر الإلزامي لوصوله إلى بعبدا، يتمثل في إعطاء ضمانة مسبقة للحريري في رئاسة الحكومة، فليكن ذلك، برغم تضارب الخيارات الى حد أنهما لا يلتقيان الا عند مصلحتهما المشتركة في حماية الاستقرار الداخلي.
الكل يتحدث مع الكل، الا ميشال عون يرفض فتح الأبواب مع نبيه بري. هل هناك عاقل في السياسة في لبنان يعتقد أنه يمكن أن يصل أي مرشح إلى القصر الجمهوري من دون معبر نبيه بري الإلزامي؟
هل هناك عاقل في لبنان يجهل حقيقة أن قيادة «حزب الله»، وبرغم حرصها على عمقها الاستراتيجي الداخلي الذي تمثله الحالة العونية مسيحيا، لن تخضع لمنطق الابتزاز الذي يحاول تحميل «الثنائي الشيعي» مسؤولية عدم وصول هذا المرشح أو ذاك الى رئاسة الجمهورية، وبالتالي لن تفرط قيد أنملة بتحالفها مع عمقها الشيعي الاستراتيجي الذي يمثله نبيه بري وحركة «أمل»، وهما معا يدركان قيمة التضحيات التي دفعاها، عندما سال الدم الشيعي وكادت لا تغيب عن كل بيت في قرية أو بلدة صُوَر شهيد سقط في «حرب الأخوة» من زاروب مارون مسك في الشياح الى أعالي جرجوع وعربصاليم في اقليم التفاح، مرورا بالضاحية وبيروت وكل الجنوب؟
لم يعد الملف الرئاسي يحتمل مناورات وتدوير زوايا. ثمة مسالك ودروب واضحة. اذا كان عون يريد أن يشكل بوصوله عنوانا للميثاقية، وإذا كان الحريري يريد أن يفتدي الطائف بقبوله بـ «الجنرال».. وإذا كان «حزب الله» قد وضع ثقته العالية والغالية بعون زعيما ومن ثم رئيسا، وقدّمها على أي اعتبار، صار لا بد من مبادرات شجاعة وخلاقة بهدف تبديد المعوقات إذا انوجدت، خصوصا أن سعد الحريري كان بمقدوره أن يتجاوز رفض «حزب الله» لمرشح، كما صار في حالة سليمان فرنجية، لكنه، وهو في حالة خصومة مفتوحة مع «حزب الله»، لن يتجاوز المكون الشيعي الآخر نبيه بري بأي حال من الأحوال.
يسري الأمر نفسه على وليد جنبلاط. قد يتفق الأخير على الاختلاف مع «حزب الله» لكنه لن يخوض معركة يخرج منها حليفه التاريخي نبيه بري مهزوما. هذه هي بعض حقائق الواقع السياسي اللبناني. هل يستطيع «الجنرال» كسرها عبر القول: «لن أعقد أي تفاهمات مع أي طرف قبل وصولي إلى بعبدا. إذا فتحت هذا «البازار» لن أصل إلى القصر خلال عشرين سنة، بينما مجرد وجودي في مقعد الرئاسة الأولى كفيل بأن يشكل عنصر اطمئنان لجميع المكونات اللبنانية، وعندها أستطيع أن أتفاهم مع الجميع وأن أقنعهم بخياراتي»؟
نعم يستطيع «الجنرال» أن يردد مثل هذه العبارات وأكثر، لكنها لن تكون كفيلة سوى بإبعاده عشرين دهرا عن القصر الجمهوري.
بكل الأحوال، لم تكن أجواء لقاء عين التينة، ليل أمس، بين بري والحريري بحضور المعاونَين السياسيين علي حسن خليل ونادر الحريري، مختلفة عن لقاء بنشعي قبل ايام قليلة، باستثناء الخلوة الثنائية التي جمعت بري والحريري، قبل مأدبة العشاء، وهي شبيهة بتلك التي جمعت فرنجية والحريري في بنشعي على مدى عشر دقائق.
مواكب «بيت الوسط» تتواصل ولا تطفئ محركاتها. عقارب المواعيد ضبطت في الساعات المقبلة باتجاه الشرق. معراب الذي عاد «حكيمها» من رحلة سفر سياحية والرابية التي تنتظر على أحر من الشوق من يأتيها بـ «الخبر الأخير»، خصوصا قبل أن يلملم زعيم «المستقبل» حقائبه مجددا، في رحلة خارجية، بعض محطاتها متصل بمواعيد دولية، وبعضها الآخر، مجرد فاصل انتظاري لاتصال لا بد وأن يأتي من الديوان الملكي، بعدما طال انتظاره شهورا.. طويلة.
عندما يراقب اللبنانيون ما يجري حولهم، وخصوصا في سوريا، لن يكون سهلا عليهم هضم فكرة أن الفرصة الرئاسية جدية للمرة الأولى منذ ثلاثين شهرا. لكن السؤال، هل هناك من يتلقفها قبل أن تلتهب أجواء سوريا في الآتي من الأيام والأسابيع، خصوصا بعد أن طلب الرئيس الاميركي باراك اوباما من مختلف وكالات الامن القومي، بحث الخيارات كافة بشأن سوريا، بمعزل عما اذا كان بمقدوره القيام بشيء ما.. في آخر مئة يوم من ايام ولايته؟