مضى كل شيء على مايرام. لم يخرج دونالد ترامب عن طوره ليشرع في توجيه الشتائم والإهانات، ولم تسقط هيلاري كلينتون مغشياً عليها من المرض او الضعف او العجز. لكن المناظرة التلفزيونية الاولى بينهما التي استغرقت تسعين دقيقة، لم تخلُ من الإساءات المتبادلة، المألوفة في مثل هذه المناسبات، ولم تحرم الجمهور التسلية التي توقعها من واحد من أهم طقوس السياسة الاميركية.
التقديرات الأولية تشير الى ان معدل الاقبال على مشاهدة المناظرة التي جرت مساء الاثنين بالتوقيت الاميركي، فاق الى حد بعيد الاقبال على المناظرة التاريخية الشهيرة بين الرئيسين السابقين جيمي كارتر ودونالد ريغان في سبعينات القرن الماضي والذي سجل رقما قياسياً بلغ 80 مليون مشاهد.. وكانت نقطة تحول في التاريخ السياسي الاميركي نحو اليمين المتطرف وظهور تيار المحافظين الجدد الذي أطبق على الاميركيين والعالم في حينه، وانتج نموذجه الاخطر ، جورج بوش الابن ، في مطلع الالفية الثانية.
شتان ما بين المناظرتين، وما بين الحقبتين. الليلة الماضية، قدمت أميركا دليلاً إضافياً على إمبراطورية في طور الانحدار ، على دولة كانت بمثابة شركة مساهمة باهرة النجاح ، فائقة القوة، فقد المساهمون فيها قدرتهم على الإبهار والإقناع والتوحد خلف فكرة كبرى، تعيد إطلاق ذلك المارد الاقتصادي ، وتعيد بناء ذلك المشروع العالمي الذي سبق ان أعلن نهايته التاريخ عنده.. ثم ما لبث ان انكفأ الى الداخل الاميركي الواهن والمفكك بل والمتخلف، حسب المعايير الغربية.
كان المتناظران ، بحد ذاتهما، رمزاً قاطعاً لحقبة مختلفة من الزمن الاميركي (والعالمي ) الجديد،.فقدت الولايات المتحدة المزيد من معالم العظمة، التي لم يبق منها سوى القوة العسكرية الهائلة، والتي يتنافس على قيادتها سمسار عقاري مخادع شبه أُمّي ،أغوته السياسة والسلطة فقرر ان يستأجر البيت الابيض، والحدائق المحيطة به، لأربع سنوات أو أكثر، بعدما أدرك ان السعر مقبول.. وهو يحاول ان يطرد من ذلك العقار الجذاب سيدة غير مقنعة وغير موثوقة وليس في سجلها السياسي إنجاز واحد يمكن ان تغري به بنات جنسها، التواقات للمساواة والعدالة الجندرية.
خاب أمل الكثيرين من الاميركيين الذين تسمروا أمام شاشة التلفزيون لمتابعة واحدة من أطرف المناظرات التلفزيونية وأشدها ترفيهاً. كان النقاش مخالفاً جداً ، وفق حساباتهم: آن الاوان ان يصل الى البيت الابيض رئيس يفهم بالمال ، قالها ترامب علناً ، ولم ينكر أنه استفاد شخصياً من ازمة القطاع العقاري في العام 2008، لا بل إنه فاخر بذلك..لم يحن الوقت لمثل هذا الانقلاب في تقاليد إدارة الشركة الاميركية المساهمة، ولا حاجة لمراجعة أي من قوانينها الداخلية. هذا من يمكن إستخلاصه من مرافعة كلينتون عن نفسها وعن "المؤسسة" التي تمثلها في وجه دخيل يحاول إختراق حصونها.
عناوين النقاش ووقائعه لم تكن تقل غرابة عن محصلته. عبادة المال، التي لم تكن يوماً حاضرة بمثل هذه العلنية في الخطاب السياسي الاميركي، نحت جانباً قضايا داخلية بالغة العمق والاهمية، أولها المرأة وحقوقها، التي لم تحولها كلينتون الى عنوان رئيسي، فضلا عن التعدد العرقي ، الذي لم يحاول ترامب منع تفجره الحتمي، وأيضا الهجرة التي نوقشت من زاوية مالية فقط، مثلها مثل مسألة "شرطي العالم"، التي يريدها ترامب ان تكون صفقة مربحة تجني منها أميركا الاموال من الحلفاء، بشكل علني وصريح ومباشر، وليس من خلال صفقات تعقد وراء الكواليس.
حافظت أميركا على الشكل الجذاب، المتقدم: المناظرة التلفزيونية التي تمتحن مباشرة على الهواء المرشحين الرئاسيين أمام الجمهور الواسع، لكنها تقدم محتوى سياسي يمكن ان تخجل به دولة من دول العالم الثالث، كانت تنبهر بأميركا وتقلدها وتكرهها وتخشاها.. وتطمح الى كسب رضاها وإكتساب جنسيتها.