لم تعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الـ45 اليوم هي المحكّ والمفصل، بعدما تجاوزتها التطورات وسحبت عصبها.
وعليه، فإن الأنظار تتجه منذ الآن الى الجلسة المقبلة التي يفترض أن تحمل العماد ميشال عون الى قصر بعبدا، إذا استكمل الرئيس سعد الحريري اندفاعته، علماً أن الجنرال «بشّر» المقرّبين منه بأن الرئاسة اقتربت جداً. ولعلّ الموعد الذي سيحدده الرئيس نبيه بري لتلك الجلسة سيشكل بحد ذاته مؤشراً الى اتجاه الريح في المدى المنظور.
ما هو مؤكد تقريباً، حتى الآن، أن الحريري حسم في قرارة نفسه خيار انتخاب عون وقرّر أن يتجرّع الكأس المرّة تجنباً لما هو أمرّ منها. وقد أتى بيان «كتلة المستقبل» النيابية أمس، معبّراً عن هذا المنحى بتجاهله الإشارة التقليدية الى التمسك بترشيح النائب سليمان فرنجية، غداة زيارة الحريري الى بنشعي، حيث التقط رئيس «تيار المردة» ذبذبات المراجعة التي باشرها رئيس «تيار المستقبل» توطئة للخيار الرئاسي الجديد.
أما المعارضة المتوقعة من داخل «المستقبل» لاستدارة الحريري المرجّحة اتجاه الرابية، فأغلب الظن أنها لن تمنعه من استكمال مغامرته، لأن الحريري ـ برغم ضعفه المستجد ـ لا يزال قادراً على احتوائها، إضافة الى أن وجوده في رئاسة الحكومة سيمنحه القدرة على إعادة الاستقطاب وتعويض الخسائر المحتملة، ربطاً بالمزايا التي تمنحها السلطة في لبنان لمن يمسك بها.
ويبقى «المزاج السعودي» ملتبساً وحمّالا لتفسيرات عدة، في ظل بقاء لبنان خارج لائحة الأولويات الملكية، حتى إشعار آخر. ويبدو أن الوزير وائل ابو فاعور عاد من الرياض بأجواء ضبابية، زادت من حيرة المترقّبين لموقف ملكي حاسم.
هذا الإهمال السعودي للملف اللبناني قد يصوّر للحريري أن بإمكانه فتح «باب الاجتهاد» وصولاً الى الاستنتاج بأن الرياض تترك له حرية اتخاذ الموقف المناسب من عون، وتحمّل مسؤولياته.
وفي المقابل، يعتبر المتخصصون في فك «الرموز» السعودية أن قراراً بحجم انتخاب عون يحتاج الى تغطية ملكية صريحة، غير قابلة للتأويل، وإلا فإن أي خطأ في التقديرات سيكون مكلفاً وربما يدفع رئيس «المستقبل» ثمنه غالياً، وهو الذي أصبح رصيده لا يحتمل المجازفة.
داخلياً، وبرغم أن هناك من يعتبر أن التجارب السابقة مع الحريري لم تكن مشجعة وأنه قد تعوزه في اللحظة الأخيرة شجاعة استكمال الانعطافة نحو عون، إلا أن الفارق الأساسي هذه المرة هو أن الحريري المحاصر بالأزمات لم يعد يحتمل المزيد من المناورة السياسية وإضاعة الوقت، بل لعله مستعجل أكثر من الجميع لحسم الاستحقاق الرئاسي والدخول في مرحلة جديدة، على كل الصعد.
لكن تقبّل الحريري لخيار عون ليس سوى بداية الطريق، لأن ترجمة القرار تحتاج الى تمهيد وتفاوض وإخراج وتسويق، وهذه مراحل تتطلب جهداً مكثّفاً ومهلة إضافية، علماً أن الحريري يستعد خلال الساعات والأيام المقبلة للقاء بري والنائب وليد جنبلاط والرئيس أمين الجميل ورئيس حزب «القوات» سمير جعجع، على أن يتوّج مشاوراته بزيارة الرابية.
بهذا المعنى، فإن الحريري بات ملزماً بأن يتصرف كمرشّح الى رئاسة الحكومة وليس فقط كناخب للجنرال، وبالتالي فهو أصبح معنياً بالتفاوض مع الآخرين على ترتيبات سياسية مسبقة تطمئنهم، تماماً كما أنه شخصياً بحاجة الى أن يبحث معهم في ضمانات له، وذلك لتسهيل عبوره الى السرايا ومن ثم تحصين إقامته فيها.
لا أحد بوارد أن يوزّع «الهدايا» على الحريري، وكل طرف يريد أن يضمن مسبقاً حصة وازنة له في التسوية التي لن تكون أقل من «سلّة»، حتى تتسع لمطالب الجميع وأولوياتهم المتفاوتة.
وانطلاقا من هذه «الشراكة الإلزامية»، لا يكفي أن يوافق الحريري على انتخاب عون، برغم أهمية هذه الموافقة، حتى يحصل على «الجائزة الكبرى». عليه أن يتفاهم مع «حزب الله» حول كيفية مقاربة الإشكاليات الداخلية والإقليمية، وأن يحاور الرئيس نبيه بري في شأن «أجندته»، وأن يناقش وليد جنبلاط في هواجسه، وقبل كل ذلك عليه أن يؤسس لأرضية مشتركة مع «شريكه» في الحكم ميشال عون وأن يتفاهم معه على كيفية تشكّل الحكومة ومقاربة الملفات الأساسية، مع العلم أن كلاماً تردد حول ورقة «إعلان نيات» جرى التداول بها خلال التواصل بين الوزير جبران باسيل ونادر الحريري، في الأسابيع الماضية.
وهناك من يعتقد أن قانون الانتخاب يجب أن يكون جزءاً أساسياً من «الصفقة» المفترضة التي ستظل ناقصة من دونه، خصوصاً أن البعض يعتبر أن هذا القانون يكاد يكون أهم من رئاستي الجمهورية والحكومة، لأن تركيبة السلطة المقبلة وطبيعة توازناتها تتوقفان عليه.
الحيطة والحذر
في مقابل المناخ الإيجابي الذي ساد مع انطلاق مشاورات الحريري، يدعو «المتحفظون» الى عدم الإفراط بالتفاؤل والمبالغة في التوقعات، لأن الأمتار الأخيرة هي الأهم في أي سباق، وربما تخون «اللياقة البدنية» المستعجلين.
ويشير هؤلاء الى أن الإيجابيات التي يجري الترويج لها لا تزال «هلامية»، وبالتالي لا يوجد بعد شيء ملموس وحسّي يمكن البناء عليه، ثم انه من المعروف أن الساحة اللبنانية متحركة بطبيعتها، ما يستدعي الحذر والتصرف على قاعدة كل «يوم بيومه».
ويرى «المتحفظون» أن الرئيس المقبل سيكون في نهاية المطاف جزءاً من السلة الشاملة، ومن العبث محاولة فصله عنها أو إخراجه منها.
العد العكسي
في هذه الأثناء، أكد مصدر بارز في 8 آذار لـ «السفير» أن الحريري حزم أمره لجهة دعم ترشيح عون، وأن العد العكسي لانتخاب الجنرال بدأ عملياً، لكن لا يجوز في الوقت ذاته التقليل من شأن شياطين التفاصيل التي قد تعطّل او تؤخر التسوية، لافتاً الانتباه الى أن طرد هذه الشياطين يتطلب مساحة زمنية إضافية، لكنها يُفترض ألا تتجاوز حدود موعد الجلسة الانتخابية المقبلة.
أما أوساط «التيار الحر» فابلغت «السفير» أن الرابية تتعامل بـ «نية حسنة» مع الإشارات الإيجابية المنبعثة من بيت الوسط، مشيرة الى أن التحضيرات مستمرة على خط آخر للتحرك الشعبي تحسباً لكل الاحتمالات.
ولفتت الأوساط الانتباه الى أن انتخاب عون ينبغي أن يتم خلال مدة قصيرة، إذا صدقت النيات، ملاحظة أن حركة الحريري تكتسب للمرة الأولة جدّية لم تكن مألوفة في السابق، وهي قد تؤدي الى نتائج ملموسة، مع التأكيد ان الأمور تبقى في خواتميها.
وشدّدت الأوساط على أن الحريري المرشّح لتولي السلطة الإجرائية هو الذي يجب أن يناقش بري في تفاصيل مرحلة ما بعد انتخاب عون، وليس الجنرال، موضحة أن اللقاء المرتقب بين بري والحريري سيكون مفصلياً.
ويُنقل عن عون قوله في هذا الاطار: الرئيس بري يعنيني وهو حرّيف في السياسة وأحد أرقامها الصعبة ولكن لست أنا من ينبغي أن يفاوضه..