يحسن كي تُحكَمَ لبنان من خارج منطق الدولة، بعيدا عن معايير الدساتير والقوانين، وعبر تجاوز العرف والميثاقية اللبنانية، وسياسة بناء الدول، أن تعمل على تجويف كل هذه المعايير التي لم تكن إلا نتيجة تراكم عبر التاريخ المديد على مستوى العالم.
أن تحكم ميليشيا دولة كما هو حال لبنان اليوم، فذلك قد تطلب جهدا نوعيا على صعيد تجويف معنى الدولة وحضورها من خلال مراكمة تعميم النموذج الفاشل والعاجز والفاسد وغير المفيد، في إدارة الشأن العام من خلال مؤسسات الدولة الدستورية والقانونية. هكذا وجد حزب الله السبيل لتثبيت نموذجه غير القابل للانسجام مع مشروع الدولة. فذهب، بداية، نحو التشجيع على تخريب الدولة من خارجها في المرحلة الأولى، وذلك من خلال القول في بداية تأسيسه إن هذه الدولة كافرة ولا شرعية لطاعتها، بل يجوز نهبها وسرقة المال العام، بحجة أن النظام الحاكم فيها هو نظام غير شرعي بالمعنى الديني. شكلت تلك المرحلة عنوانا أساسيا من عناوين سلوك حزب الله وسياساته في حقبة الثمانينات من القرن الماضي، ونظّر كثيرا للجمهورية الإسلامية في لبنان التي اعتبرها هدفا استراتيجيا له. وكل ذلك كان ينطوي على سلوك واعٍ في الكثير من الأحيان بأنّ هذه الدولة اللبنانية هي عدو، ولطالما كان محازبوه يعبرون عن ذلك بالكثير من الوسائل منها حرق العلم اللبناني في الساحات العامة على سبيل المثال لا الحصر.
المرحلة الثانية وهي مرحلة ما بعد اتفاق الطائف الشهير عام 1989. حينها لم تتغير استراتيجية حزب الله ومن خلفه الأيديولوجيا الإيرانية التي ضخّت في بنيته التنظيمية وأيديولوجيته الدينية، المزيد من التعامل مع الدولة باعتبارها غنيمة حرب أو دولة لا تستحق الانتماء إليها ولا تشكل رابطا واجب الاحترام. وهكذا ظل الولاء لإيران وولاية الفقيه هو الولاء المتقدم على الولاء للدولة وللبنان كوطن مثل بقية الأوطان. لكن اعتبارات إقليمية فرضت على حزب الله وبإرادة سورية، بداية التسليم بوجود دولة ولو من زاوية تنتمي إلى مفهوم التقية بمعناه السلبي، أي إظهار الانتماء للبنان علنا ومقاومة هذا الانتماء سرّا. وفي العام 1992، وتأكيدا لمسار فكري أيديولوجي يجافي فكرة الانتماء للدولة اللبنانية، اقتضت مشاركة حزب الله في الانتخابات النيابية في العام 1992 أن يُصدر الولي الفقيه، القائد الفعلي لحزب الله السيد علي خامنئي، فتوى نشرت في حينها تجيز دخول ممثلي حزب الله إلى البرلمان، في حين أبقى على حرمة الدخول إلى الحكومة.
لنتخيل أن تكون شرعية المشاركة ومبدأ الانتخابات النيابية يتطلبان فتوى دينية من حاكم دولة أخرى. يكشف هذا الواقع النظرة الأيديولوجية لمفهوم الدولة الوطنية لدى حزب الله، ومسألة الولاء للفقيه وخطرها على الدولة الوطنية والعقد الاجتماعي في هذه الدولة.
رغم دخوله إلى مجلس النواب وتحريمه المشاركة في الحكومة، استنادا إلى فتوى ولي الفقيه، فقد استمرت الأيديولوجيا التي لم يتسرب إليها أيّ ملمح له علاقة بالولاء للدولة. إذ لا تجد في أدبيات حزب الله ولا أيديولوجيته ما يشير إلى أنّه حزب لبناني، يعتبر ولاءه للبنان أساس وجوده، أو يتطلع إلى الدستور اللبناني باعتباره الحكم بين المواطنين والدولة، ولا يولي احتراما لقوانين الدولة باعتبارها واجبة الطاعة (مع حرية السعي إلى تطويرها ضمن آليات الدستور وشروط العقد الاجتماعي).
لبنانية حزب الله شكلية، أي جغرافية، وليست موجودة في الأيديولوجيا ولا في برامج تعبئته الحزبية. وليست أكثر من وسيلة تخفي وراءها ازدراء هائلا لفكرة الانتماء للدولة والولاء لها.
هو يعلن كل يوم وبصريح العبارة أنّ ما يأمر به ولي الفقيه في إيران واجب الطاعة ولو كان ذلك على حساب لبنان.
حاول أمين عام حزب الله أن يحل هذه الإشكالية المحرجة له أمام البعض من حلفائه المسيحيين بإعلانه أنّ “ولي الفقيه لا يمكن أن يأخذ قرارا ملزما لحزبه يتعارض مع مصلحة لبنان”.
ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل لأنّها غير منطقية، ولا تمسّ الإشكالية الأساسية بأنّ هناك من يستطيع أن يلزمك، إذا شاء، بالخروج على ما تعاقدت عليه مع بقية المواطنين في احترام الدستور والقانون والولاء للدولة.
هذه الأيديولوجيا التي نشأ عليها حزب الله، هي التي حكمت مساره منذ تأسيسه، لأنّه كان دائما يرفض مواجهة حقيقة أنّه ينتمي بالفعل إلى لبنان ودولته أم إلى شيء آخر. وتعززت هذه الأيديولوجيا وزاد من نفورها مع مشروع الدولة كلما بدا أنّ الحزب ينخرط في مشروع الدولة ويتبنى قواعدها.
فأمام خيار التسليم بالدولة أو إضعافها، كان حزب الله يميل دوما بطبيعته الأيديولوجية إلى المزيد من إضعاف الدولة.
فهو يدرك أن مشكلته مع الكيان ليست في طبيعة النظام أو في القوانين التي تحكمه، هو مشكلته مع مبدأ وجود الدولة المتعارف عليها في دول العالم اليوم ومن بينها دولة إيران. فقد تأسس على الخروج على قواعد الدولة وشروطها، وعلى حق حصري بأن يؤسس ميليشيا خارج سلطة الدولة، وأن تكون له منظومة أمنية لها حق التصرف كما يقدر هو، وأن يكون محازبوه، في كل ما يقومون به من أعمال حزبية وقتالية وأمنية، خارج سلطة قانون الدولة ويخضعون لسلطته وحده.
دخل حزب الله الحكومة اللبنانية لكن ليس اعترافا كما أسلفنا بالكيان وقواعده، بل كوسيلة من وسائل إضعاف الدولة وتقويضها بما يتلاءم مع بقائه خارج أي سلطة محاسبة أو رقابة، بل خارج أي قواعد قانونية.
دخوله إلى الحكومة كان وسيلة من وسائل حماية وجوده اللاقانوني من جهة، وسبيلا للاستفادة من الدولة على قاعدة “لي الغنم وعلى غيري الغنم” من جهة ثانية. فقد شكلت الدولة اللبنانية متراسا يتمترس به الحزب حين الحاجة ويعمل على إضعافها وتطويعها بشكل دائم.
هذا السلوك الدائم منذ التأسيس الذي يقوم على تقويض مشروع الدولة، أسس لدى حزب الله نظرية يتبعها بشكل دقيق في التعامل مع الدولة اللبنانية، وهو تشجيع الفساد في الدولة، أو ما يمكن أن نسميه سياسة الإفساد. إذ أنّه مشارك في الحكم وفي كافة السلطات، والهدف محاولة ترسيخ فكرة في ذهن اللبنانيين بكل ما أوتي من قوة، أنّ الدولة اللبنانية فاسدة وعاجزة، ويتقاسم غنائمها لصوص، وهي عاجزة عن حلّ المشكلات البسيطة للبنانيين كالماء والكهرباء والنفايات.
هذه الفكرة الجوهرية يعتقد حزب الله أن ترسيخها في أذهان اللبنانيين مع السعي الدؤوب إلى فرضها في الواقع، كفيل بأن يجعله يسرح ويمرح من سوريا إلى اليمن والعراق، وأن يكون أداة طيّعة في يد الحرس الثوري، وأكثر من ذلك أن يطبق النموذج الذي أنجزه في لبنان خدمة لمصالح الأيديولوجيا الإيرانية التي تستكمل المشاركة في تدمير ما تبقى من كيانات وطنية في المشرق العربي واليمن وغيرهما.
صحيفة العرب