ما قبل جلسة انتخاب رئيس للبنان في الـ28 من الشهر الجاري تتدافع التحليلات والتصريحات والمواقف التي تقترح قبولا للرئيس سعد الحريري بانتخاب الجنرال ميشال عون رئيسا. ولأن الاستشراف لا يستند إلى معطيات حسّية أو إلى تأكيدات علنيّة، فإن مجرد التلويح بالاحتمال، يعكس مدى طراوة الثوابت القديمة وهشاشتها، كما يعكس مدى المكيافيلية التي وصل إليها الأداء السياسي اللبناني باسم الواقعية وقراءة موازين القوى.
والمكيافيلية ليست شتيمة سياسية كما يتخيّل الكثيرون تبسيطا لأحد أهم كتب العلوم السياسية وقواعد العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالمفكر والسياسي الإيطالي سوّق لعبقرية في التلاعب بالخيارات المتاحة والتمتع بهامش عريض من المناورة إلى درجة قد لا يحدّها محدد جامد دغمائي عقائدي.
فحين كتب نيكولو مكيافيلي “الأمير” كان هدفه إهداء الحاكم إلى سبل الحفاظ على الحكم، ذلك أن الحاكم قيمة مطلقة تستحق “غاية” حمايته وصيانة ملكه بكل الوسائل المتاحة.
ليس الشيخ سعد الحريري حاكما مطلقا يحتاج دهاء مكيافيلي وعبقرية “أميره”. فالرجل ترجّل إلى عالم السياسة في البلد من لحظة مأساوية اغتالت والده وجعلت من زعامته قدرا.
لم تكن زعامة سعد الحريري مبرمجة من قبل، فإذا به يقارع الخصوم ويواجه الدهاليز السوداء لأصول الحكم متكئا على رصيد غير مسبوق تركه له الوالد الراحل.
من ذلك الرصيد انطلق الرجل يطالب الداخل والخارج بعدالة تقتص ممّن ارتكب إثم الاغتيال، لكن مكيافيلية جلفة اصطدمت برومانسية الزعيم الشاب الصاعد، فصفعت أحلامه وأردته خاضعا لشروط المصالح وقواعد “لعبة الأمم”.
قد يجوز الافتراض أن سعد الحريري لم يكترث لـ“الأمير” في مكتبته المفترضة ولم يتصفّح وريقاته إلا حين وجد نفسه مجبرا على الذهاب إلى دمشق ومصافحة من هو مفترض أن يكون قاتل والده والنوم بين جدران قصره.
في تلك اللحظة اكتشفت قريحة الرجل ما كان يردده ساسة لبنان من قبله “مصلحة لبنان”.
باتت في فم الرجل معادلات جديدة لا تخرج عن عفوية الابن المفجوع، بل تنطلق من حسابات لم يعهدها جمهوره ولم يتربَّ عليها مناصروه.
حين خرج في لاهاي من قاعة المحكمة الدولية التي افتتحت أعمالها المنتظرة، خرج من جديد، ومن أجل “مصلحة لبنان”، يدعو إلى المصالحة وطيّ صفحات موجعة في ماضي البلد القريب.
لا شك أن سعد الحريري قد تأمل كثيرا انقلاب موقف السعودية، في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، من غضب شديد ضد نظام دمشق التي اغتالت، وفق الروايات السعودية، “رجلنا” في لبنان إلى “حكمة” انتقال العاهل السعودي الراحل، بشخصه، من الرياض إلى دمشق لكي يصطحب رأس النظام بشار الأسد، بشخصه، إلى بيروت، في ما اعتبر حينها توقا سعوديا حكيما لتجاوز منعطف مأساوي في تاريخ لبنان وسوريا، كما في تاريخ العلاقة السعودية السورية.
قد يجوز افتراض أن الانعطافات الراديكالية التي اضطر سعد الحريري لسلوكها قد ضخّت في وجدان الرجل جرعات واقعية مريرة جعلته مرنا حيال الرياح السوداء التي تنفخها حسابات الخارج وتسعّرها منابر الداخل.
وهو إن بدا متلقيا للانقلابات في مزاج الحلفاء قبل الخصوم، وإن أُخرج من على رأس حكومته وهو جالس في مكتب من هو مفترض أنه رأس العالم في واشنطن، فإنه، ومنذ ترشيحه سليمان فرنجية، يباشر ما يجب على “الأمير” أن يمارسه دفاعا عن حكم وصونا لحاكم.
يعرف “الشيخ” الحريري أن خياره ما بين “البيك” فرنجية و“الجنرال” عون يمر أيضا بحسابات “الأستاذ” بري و“السيد” نصرالله و“البيك” جنبلاط.
وفي رحلة الألغام هذه، يتلقى أخبار المعركة في حلب كمرآة لتداخل أجندات وتقاطع أخرى.
وقد يفهم سعد الحريري من احتمال “سقوط” حلب مقايضة تجري بين أنقرة وموسكو، وربما تواطؤا بين موسكو وواشنطن، وقد يجوز تخيّل صفقة ما بين تركيا وإيران.
وفي تراكم تلك الحالات على وقاحتها دفع لـ“الشيخ” الشاب لجعل المكيافيلية قانون الطبيعة وليس استثناءها. فإذا ما كانت الواقعية ديدن العلاقات بين الأمم، فلماذا لا تجوز الواقعية ديدنا وحيدا لخياراته المقبلة.
وفي متابعة لما يصدر عن قيادات تيار المستقبل ما يوحي بأن الحزب الأزرق يشتبه في انقلاب قد يعلنه زعيمه بعد عودته من السعودية. لم يلمح أحد من تلك الأوساط باحتمال موافقة “الشيخ” على انتخاب “الجنرال”، لكن الأجوبة المرتبكة التي تردد أن “لا مؤشرات” وأن التيار مازال “متمسكا” بترشيح فرنجية وأن لا “معطيات” جديدة، توحي بغير ذلك، ذلك أنها تبتعد عن لغة سابقة حاسمة مطلقة حول “محرّم” عون الذي استوحى قوته من مزاج تقليدي رافض يلاقي به بيت الوسط ذلك في الرياض.
على أن أجواء العلاقة بين العاصمة السعودية والشيخ سعد مخصّبة بالكثير من الضباب الذي لا يبدو أن الإدارة السعودية متفرغة لتبديده. لم تعد الرياض، في المعلن، ترى في الشأن اللبناني أولوية في أجندة السعودية. سحبت هبتها المليارية للجيش اللبناني، وسحبت سفيرها من بيروت ولم ترسل بديلا عنه.
ي تلك الإشارات الغاضبة البعض من غضب من حلفائها، وفي رمادية الوصل بين زعيم المستقبل وأولي الأمر في السعودية ما يوحي بأن الرياض غير مكترثة بمصير الحريري وتياره، ولا تريد المخاطرة في أي استثمار سياسي جديد يراكم خسائر استثماراتها السابقة.
قد يأخذ سعد الحريري علما بموقف السعودية غير المسبوق من الحريرية السياسية. ليس في الموقف قطيعة قاتلة، لكن ليس فيه أيضا وصل ودود.
قد يخيّل لأي مراقب أن السعودية تحرر الحليف من أعباء ذلك الحلف.
في الرياض كثيرون كانوا ينتظرون فعلا حريريا يلتحقون به.
وفي بيروت كثيرون كانوا ينتظرون جلاء استراتيجيات الرياض في بلادهم ليتظللوا بها. شيء ما تغير في طبيعة الأخذ والرد يملي على “الشيخ” اعتماد خيارات قد لا تتّسق مع معطيات تياره المتوفرة.
تزدهر في بيروت سطور تتحدث عن تواصل جار بين نادر الحريري مدير مكتب الحريري والوزير جبران باسيل صهر “الجنرال”. لم يعد الاحتمال مستبعدا وربما في عودة سعد الحريري قبل جلسة الانتخاب المقبلة ما يروّج لإمكانية إعلانه دعم ترشيح عون والتخلي عن ترشيح فرنجية.
سينضم الحريري وفق هذا الاحتمال إلى خيار حليفه “الحكيم” قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، وسيلاقي عرض حزب الله لانتخاب “الجنرال” وتكليف “الشيخ” بتشكيل الحكومة.
سيحرج الأمر حزب الله المنشغل بهواجسه الإيرانية من صنعاء إلى دمشق، وسيغضب حلفاءه المسيحيين الذين ما برحوا يناكفون العونية إيمانا، ربما، بالحريرية. لكن الأمر، لا شك، سيهزّ جدران تيار المستقبل الذي تجاوز مرارة خيار فرنجية وقد لا يحتمل هضم علقم عون.
على أن المكيافيلية نفسها التي تزيّن لـ”الشيخ” محاسن “الجنرال” قد تقف ضد هذا المزاج. ستكون أمام سعد الحريري قراءة الراهن من خلال تأمل التاريخ، وقراءة المستقبل من خلال قراءة الجغرافيا.
شيء كبير يُعدّ للمنطقة بأسرها. المعركة السورية تشتد راسمة أعراضا لبلد يعاد رسمه وتُنحت ضفافه على حدود لبنان. المعركة العراقية تطلُّ حاملة خرائط جديدة تطيح بما عهدناه على مدى قرن مضى.
يعيش العالم على وقع رمادية راكمتها ثماني سنوات من عمر عهديْ باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة.
ينتظر العالم أجمع ساكنا جديدا في البيت الأبيض يؤكد نهجا قديما أو يقفز نحو نهج آخر. يوحي “تمرد” المؤسسات الأميركية، مذاك داخل وزارة الخارجية الأميركية قبل أشهر إلى ذلك داخل البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية قبل أيام، بأن واشنطن تحتاج لوجه آخر يبدد أداء الرئيس الـراحل.
صحافة واشنطن تتحدث عن خيارات مقبلة في ملفات المنطقة، لا سيما في جانبها السوري – الإيراني. في العالم من ينتظر أن تتبدل أجندات أميركية قد تبدل من موازين قوى في قضايا الأمن واللجوء والسياسة والاقتصاد.
وفي المنطقة من يرى في الحدث الأميركي مناسبة قد لا تريح طهران ودمشق، فلماذا تريح سيد الرابية في لبنان؟
في المفارقة أن قواعد “الأمير” نفسها قد تردع “الشيخ” عن تطويب “الجنرال” أميرا.
محمد قواص: العرب