عشرون كيلو غراما من المخدرات صادرها الجيش اللبناني من محلة السويقة إحدى أكثر المناطق فقرا وحرمانا في طرابلس، في إطار حملته على تجار ومروجي المخدرات.
هذه العيـّنة هي جزء بسيط مما يتم اكتشافه ومصادرته من سموم كانت مخزنة ومتاحة للعرض والطلب، في سوقٍ تحوّلت إلى مساحات مكشوفة للبيع والشراء، دون حسيب أو رقيب، في الكثير من حارات وأزقة عاصمة الشمال، مما يطرح سؤالاً جوهريا في هذا السياق: من أين تأتي هذه المواد، وكم هي الأموال التي تتوافر لتوزيعها وترويجها وشرائها.. وما هي نتائج هذا الانفلاش المسموم على الواقع الاجتماعي والأمني وحتى السياسي؟؟!!
هذه الأسئلة باتت أكثر من مشروعة في ضوء تكشـّف فضيحة الانتشار المخيف لعصابات بيع المخدرات، حتى بات يمكن القول إن البيع كان علنيا، ووصلت "الخدمات" إلى حـدّ التوصيل إلى المنازل والمراتع والشواطئ المستباحة..
ولقد كشف إنجاز الجيش اللبناني المتمثل في القبض على أهم تجار ومروجي المخدرات في طرابلس قبل أيام، حجم تفشي الجريمة المنظمة المرتبطة بهذه الآفة في عاصمة الشمال.
هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، بل إنها وليدة وإرث النظام الأمني اللبناني – السوري البائد، الذي حوّل الاتجار بالمخدرات، وخاصة حبوب الهلوسة ومشتقاتها إلى سوق سوداء ووسيلة لتدمير الشباب والأجيال، وأنشأ سوقا سوداء امتدت بين المخيمات الفلسطينية والمناطق الشعبية، وكان المخبرون يختلطون بالتجار، وتحظى شبكاتهم بالتغطية والحصانات، وسط عملية متكاملة، بقيت مفاعيلها وقواعد سلوكها مستمرة حتى اليوم.
خلفية تاريخية - سياسية
لم تشهد طرابلس مكافحة جدية طيلة سنوات ما بعد الانسحاب السوري، وتفاقمت ظاهرة "الحبحبة" لتصل إلى شرائح واسعة من الفتيان والشبان، وتحوّلت في السنوات الأخيرة إلى تجارة علنية لها أوكارها المعروفة و"رموزها" الأخطبوطية المتشابكة، وحماياتها الأمنية المضمرة.
فلا يمكن الحديث عن تنامي الاتجار والتوزيع بالشكل الذي وصل إليه في طرابلس ومناطق أخرى، دون حمايات وتغطيات بل وتواطوء في بعض المواقع والمراكز، لأن حجم "النشاط" المخدراتي أكبر من أن يكون مجرد تجارة عابرة ومحدودة الأثر.
في الأشهر الأخيرة، شهدت الأوساط الأمنية والسياسية في طرابلس نقاشا جادا حول تفشي انتشار المخدرات بطريقة علنية، في استغلال واضح لحالة التردي المتمادي في البلد، وتلاشي القرارات الكبرى التي تؤمن مصالح الناس.
ومنذ انطلاق الثورة السورية، أعطت الأجهزة الأمنية أولوية مطلقة لمتابعة ملفات "الإرهاب"، مع ما يرافق هذه المتابعة من خروقات، إلا أن تلك الأولوية كانت مفهومة نظرا للتحولات الحاصلة في الجوار.
إلا أن التوجه نحو مكافحة الإرهاب جعل التصدي للآفات الاجتماعية، والمخدرات منها تحديدا، في مرتبة متدنية من الاهتمام، مما سمح لرعاتها بالتغوّل وافتراس المزيد من شباب طرابلس وفتيانها.
ومن هنا تكمن أهمية الخطوة التي اتخذتها قيادة الجيش بالتوسع نحو مواجهة العصابات المنظمة التي تروج الحبوب المخدِّرة بعد أن وصلت في مخاطرها إلى مراحل شديدة الخطورة.
صمت مريب
الغريب في أمر هذا الملف أنه كان حديث الشارع الطرابلسي الذي كان يستغيث لإنقاذه، ولكنه كان يقابل بصمت مخيف من النواب والمسؤولين الذين يعرفون الحقيقة ولاذوا بالسكوت واعتمدوا التجاهل لقنبلة يمكن أن تنفجر في أي وقت، سواء من الناحية الاجتماعية أو الأمنية على حدٍ سواء.. كذلك غابت المرجعيات الدينية والجمعيات الأهلية عن مقاربة هذه الآفة بشكل أوحى وكأنه ليس هناك أزمة تتفاقم أو تحدٍ يتعاظم خطره بشكل مستطير.
طبعا، كانت هناك محاضرات للتوعية من مخاطر المخدرات المدارس وبعض المواقع الأهلية، لكنها كانت تتولى علاج الأعراض، ولا تقترب من السبب، فتبقى معركتها خاسرة، لأن مستوى تدفق المواد المخدّرة إلى الأسواق أكبر بكثير من محاولات التوعية المبذولة.
التطور الأهم
شهد الأسبوع الفائت تحوّلا كبيرا وجديا في مقاربة هذه المعضلة.
دخلت مخابرات الجيش على الخط، وكسرت العجز والصمت، وقطعت بعض خيوط التواطؤ، لتقبض على واحد من أهم وأعتى تجار ومرجي المخدرات في طرابلس، إضافة إلى شنّ حملة ملاحقة لشبكته ولمجرمين آخرين يتولون نشر هذه البضاعة الفاسدة.
لم يكن تحرّك الجيش نابعا من فراغ. فقد علم الضباط في طرابلس، وتحديدا في جهاز المخابرات، أن الوضع لم يعد يحتمل التأخير في التدخل، فكانت الخطوة الهامة والحيوية التي أدت إلى حصول هذا الإنجاز.
الموقف الديني المشترك
في البعد الديني ليس هناك أي شك في أن للدينين الإسلامي والمسيحي رأيا واضحا لا لبس فيه بتحريم المخدرات، تصنيعا وبيعا وترويجا واستخداما.. ولكن الخطاب لدى المرجعيات الدينية الكبرى، موسمي في مقاربة هذه المعضلة، ويكاد يغيب محليا في المتابعة المناطقية للقيادات الدينية.
المطلوب اليوم، خلع ثوب الرتابة وإعلان حالة طوارئ في المؤسسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، والطلب إلى العلماء ورجال الدين تسخير منابرهم المسجدية والكنسية والإعلامية، للتوعية والتحذير وللتضامن مع الجيش في حملته المتقدمة لمواجهة آفة المخدرات.
رؤية التحالف المدني الإسلامي
إن التحالف المدني الإسلامي باعتباره حزبا سياسيا ذي خلفية إسلامية، دأب على متابعة قضية حقوق الإنسان، وتصدى للاختراقات والانتهاكات التي تتعرض لها حقوق المواطنين لدى الأجهزة الأمنية، من خلال ما يسمى "الحرب على الإرهاب".
ولقد قدّم التحالف رؤية متكاملة تتضمن أولوية الحفاظ على الأمن والاستقرار بالتوازي مع الحرص على توفير معايير العدالة والإنصاف في كل مراحل العملية الأمنية والقضائية، بالتوازي مع توعية دينية وتنمية اجتماعية لا يمكن دونهما الحديث عن تقدم في إزاحة شبح الفكر المتطرف.
هذا التوجه، جعل البعض يحاول تصنيف التحالف وكأنه على خصومة مع أجهزة الدولة الأمنية، خاصة بعد موقفنا من قضية الشيخ بسام طراس، وما رافقها من دخان سياسي وإعلامي.
من هنا، يهمنا التأكيد على الآتي:
ــ إننا نقف إلى جانب المؤسسات الدستورية والأمنية في لبنان، انطلاقا من انتمائنا الوطني، ونؤكد أننا حريصون على استمرارية عملها، ونرفض تعطيلها بأي شكل من الأشكال، في إطار القانون والحفاظ على الحقوق المضمونة في الدستور للمواطنين، سواء لجهة التوازن في الدولة، أو لجهة ضمان حقوق الإنسان فيما يخص أداء الأجهزة الأمنية.
وبالتالي، ليس لنا خصومة شخصية مع أي موقع أو مسؤول، ومواقفنا تأتي من منطلق البحث عن الحقيقة والحرص على تأمين العدالة والإنصاف للجميع.
على هذه الخلفية، نرى أهمية تقديم نموذج إيجابي للعلاقة مع الجيش، ليس من باب المجاملات التقليدية السائدة، نظرا للخلفيات المعروفة، بل من باب الانخراط الكامل في دعم وتأييد المؤسسة العسكرية، كنموذج للتعاون الوثيق الممكن تحقيقه لصالح خدمة المواطنين في ملفات كبرى، كملف مكافحة المخدّرات.
نظرة واقعية
لقد لمسنا، أن شبكة مصالح كبيرة باتت متجذرة ومترسخة في الواقع الطرابلسي، على ارتباط مباشر وغير مباشر بعصابات نشر المخدرات في مجتمعنا، ولمسنا هذا الأمر من خلال الصمت المريب الذي لاذ به الكثيرون، خاصة أننا كنا نشهد في المناسبات التقليدية تبييض الوجوه وإطلاق البيانات ونشر اليافطات، وهذه أمور تحوّلت إلى فولكلور للتباهي والاستعراض في الكثير من الأحيان.. في حين أن ما يفعله الجيش اليوم هو العيد الحقيقي للشباب الطرابلسي، وهو الإنقاذ لمجتمعنا من دوامة التيه المخدِّر.. ونرى بكل صراحة أن المساندة الآن واجبة وأكثر من ضرورة..
خطوط المواجهة
إلا أنه ورغم أهمية ما حصل، فإنه لا ينبغي الركون إلى هذا الإنجاز وحده، لأن شبكات التخدير منتشرة بقوة في طرابلس، وتحتاج حملات متواصلة ومتعاكسة لضمان تمشيط المدينة من أي أثر لمجرمي ترويج المخدرات، وذلك بالتوازي مع استنهاض سياسي إجتماعي، إعلامي وديني، يضع النقاط على الحروف، وفق الترتيب الآتي:
ــ أولا: الإشادة بدور مخابرات الجيش في في طرابلس على خطوتها المشهودة في ضرب بعضٍ من أهم أوكار نشر المخدرات.
ــ ثانيا: استخلاص قرار سياسي حاسم وسريع يقضي بالتعاون الفوري بين الأجهزة الأمنية، وخاصة بين مخابرات الجيش وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وسائر المواقع المعنية في الدولة لمحاربة آفة المخدرات.
ــ ثالثا: لدى الرأي العام دور حيوي في مواكبة المواجهة مع عصابات نشر المخدرات ومن الأهمية بمكان إبداء الدعم والتأييد لخطوة الجيش، وإفساح المجال لمواكبة خطواته اللاحقة في إطار تصفية معاقل تجار السموم.
ــ رابعا: أن تعطي بلدية طرابلس حيزا هاما للنشاط والتحرك ضد آفة المخدرات، عبر تفعيل أجهزتها ولجانها الاجتماعية والصحية والإعلامية، وتتعاون مع اتحاد بلديات الفيحاء، وسائر بلديات الشمال.
ــ خامسا: التعاون بين المؤسسات الكبرى في طرابلس والشمال: غرفة التجارة والصناعة والزراعة، ونقابات الأطباء والمحامين وسائر مؤسسات المجتمع المدني لوضع خطة تعاون مع مؤسسات الدولة المعنية، وخاصة وزارات الداخلية والتربية والشؤون الاجتماعية.. تستمر على مدار العام، وتوقف تدريجيا تمدّد السموم وتجارها في مفاصل المجتمع.
- سادسا: الاستعانة بالمنظمات الدولية والاقليمية والمحلية ذات الاختصاص في مواكبة خطة المواجهة لآفة المخدرات.