أثار إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن إجراء تحقيق بشأن استخدام تنظيم داعش غاز الخردل في قصف تجمّع لجنودها بالعراق، مخاوف بشأن المخاطر الكبيرة التي تنطوي عليها معركة استعادة مدينة الموصل التي تلوح وشيكة، وذلك بقدر ما أثار الإعلان ذاته من شكوك وأسئلة بشأن إمكانية لجوء الولايات المتحدة إلى “تكنيكها” المألوف في التهويل وتضخيم حجم العدو، لتعظيم دورها في مواجهته خصوصا وأنّ المعركة المرتقبة تنطوي على قدر كبير من الأهمية لإدارة الرئيس أوباما، سواء من النواحي السياسية العاجلة كوسيلة للدعاية الانتخابية للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في مواجهة منافسها العنيد دونالد ترامب، أو من النواحي الجيوستراتيجية، كمدخل لإعادة تقاسم النفوذ في العراق والمنطقة من حوله في ظلّ تنامي دور منافسين إقليميين ودوليين يبدون أطماعا متزايدة في العراق الذي يمر بأسوأ فترات ضعفه.
ولا يتوانى قادة رأي عراقيون معروفون بدعواتهم إلى إحياء النهج السيادي للبلد، في التعبير عن استيائهم من جعل القضايا المصيرية للعراق وأمنه ومستقبل شعبه مجرّد أوراق لخدمة أهداف ومصالح بلدان أخرى ورهن صراعات تلك البلدان وتنافسها على النفوذ.
ويجزم مراقبون بوجود معطيات موضوعية تحتّم استحالة أن تكون معركة الموصل عراقية خالصة تتمثّل بضعف القدرات العسكرية العراقية وتشتت قياداتها بعد إقالة وزير الدفاع من قبل مجلس النواب، فضلا عن كثرة التجاذبات بين أطراف محلية وإقليمية ودولية حول مصير المدينة بعد استعادتها من داعش.
الولايات المتحدة تحاول أن تجعل من معركة استعادة الموصل عنوانا لأول انتصار حقيقي على تنظيم إرهابي
وفي مسعاها إلى أن تكون الطرف الرئيس في الحرب على الإرهاب، تحاول الولايات المتحدة أن تحتوي تلك التجاذبات من أجل أن تتحول معركة الموصل عنوانا لأول انتصار حقيقي على تنظيم إرهابي، بعد أن أنفقت دول عديدة أموالا طائلة في تلك الحرب التي تقودها واشنطن من غير أن تحقّق نتيجة تذكر.
ويظل من الثابت، وفق المحللين السياسيين والعسكريين، أن الولايات المتحدة ذاهبة إلى جبهة الموصل لا من أجل إنقاذ سمعة الجيش العراقي، بل من أجل الحيلولة دون انهيار العراق إذا ما قرر سكان المدينة الانفصال عن الدولة الأم والالتحاق بإقليم كردستان أو الانضمام إلى تركيا، هربا من حكومة بغداد، التي اتسمت سياساتها السابقة بنزعة طائفية، سببت الكثير من الشعور بالقهر لدى سكان المدينة المليونية.
وبالتوازي مع ذلك يظل التدخل الإيراني أو التركي المتوقع في المعركة الفاصلة ضد داعش محل ارتياب بالنسبة إلى قسم هام من العراقيين حسب توجهاتهم الطائفية، لا بدوافع وطنية. فشيعة الحكم يتوجسون خيفة من تركيا، وفي المقابل فإن سنّة الحكم على يقين من أن إيران ستضع يدها على الموصل من خلال ميليشياتها.
وتدخل الولايات المتحدة من باب الموصل إلى العراق باعتبارها مخلّصا، غير أن ذلك الدور سيجد من يُفشله. وقد تتفق أطراف الحكم على أن تكون العقبة التي تقف أمام نجاح الولايات المتحدة في مهمتها، بسبب ولاء تلك الأطراف لقوى إقليمية ترغب في أن تكون لها حصة في كعكة الموصل التي تسعى واشنطن إلى الانفراد بها. ولهذا لن تكون المعركة يسيرة.
وقالت وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” إن تنظيم داعش أطلق قذيفة باتجاه قاعدة للقوات الجوية في العراق وتبين أنها تحتوي على غاز الخردل. وشرح مسؤول في الوزارة أن جنودا أميركيين بشمال العراق اكتشفوا داخل شظايا صواريخ أطلقها عليهم مقاتلو التنظيم آثار مادة قد تكون غاز الخردل السام، موضحا أن الشظية أخضعت لفحص مخبري أولي، وأنها ستخضع للمزيد من الفحص.
إمساك الولايات المتحدة بزمام المبادرة في معركة الموصل يفجّر النقاش مجدّدا حول سيادة العراق وتحكّمه بملفات تتعلّق بمصيره ومستقبل شعبه
وهذا التصريح للمسؤول بالبنتاغون، واحد من سيل التصريحات الصادرة عن المسؤولين السياسيين والعسكريين من مختلف المواقع والرتب والمستويات بما في ذلك عن الرئيس باراك أوباما، بشأن معركة استعادة الموصل من تنظيم داعش والتي بدت وكأنّها شأن أميركي محض تمتلك واشنطن زمام القرار بشأنه، فيما يبدو دور حكومة بغداد ثانويا.
وفجّر إمساك الولايات المتحدة بزمام المبادرة في معركة الموصل، التي توصف بالحاسمة، النقاش مجدّدا، حول سيادة العراق وتحكّمه بملفات تتعلّق بمصيره ومستقبل شعبه.
ومنذ انطلاق الحرب على التنظيم بعد استيلائه على ما يقارب ثلث مساحة البلاد صيف سنة 2014، بدا تعويل العراق على الخارج كبيرا في تلك الحرب التي جاءت بشكل مفاجئ في أوج انهيار القوات المسلّحة العراقية بفعل الفساد وتسرّب الصراعات السياسية والاعتبارات الطائفية إلى صفوفها.
وبعد أن فتحت حكومة العراق الضعيفة الباب واسعا أمام التدخّل الإيراني عن طريق الخبراء العسكريين في معارك محيط بغداد وديالى وصلاح الدين وأجزاء من الأنبار، مع الاستعانة بطيران التحالف الدولي، تبدو الحكومة ذاتها وقد أرغمت على تسليم قيادة معركة الموصل بيد الولايات المتحدة التي توحي تصريحات كبار مسؤوليها بأنها صاحبة الكلمة الفصل في تلك المعركة.
وعمليا يكون العراق بتعويله على إيران والولايات المتحدة في تخليص أراضيه من قبضة داعش، قد أسلم زمام أموره المصيرية بيد القوّتين اللتين سبق لهما أن تعاونتا على إسقاط دولته بعد غزو سنة 2003، وزرع الفوضى التي يتخبّط فيها البلد حاليا دون وجود أفق واضح للخروج منها.
صحيفة العرب