تعالوا نَقُمْ بجولة سريعة بين بعض الأحزاب-التيارات اللبنانية الرئيسية الحالية لنحاول أن نرصد ما يدور على ضوء مؤشِّرَيْن رئيسيّين: مؤشِّر الصعود والهبوط ومؤشر التغيير والجمود وكلاهما مؤشران مختلفان ومتداخلان في آن معاً.
لدينا جولة بين العونية والحريرية المتراجعتين وقفزة فوق الثنائية الشيعية المجمِّدة والثابتة.
التيار الوطني الحر:
مرةً قلتُ لمناضل شابٍ فاعل في صفوف التيار الوطني الحر لم يحظً بَعْدُ بمكاسب المواقع، أن ما أزعجني في عملية اختيار رئيس جديد للتيار الوطني الحر ليس ترشيح جبران باسيل. فهذا يحصل أو يمكن أن يحصل في أحزاب غربية، أي أن يتقدّم الابن أو الصهر إلى القيادة وسط منافسين آخرين، وإنما الذي أزعجني هو أن منافسه الوحيد على الرئاسة كان آلان عون ابن أخت ميشال عون. غير الطبيعي أن ينحصر الصراع في العائلة الضيقة. عنى هذا أن الحالة داخل التيار العوني ليست صحيةً مع كل احترامي لشخصي المرشّحين وميزاتهما. وَلَوْ!! الصهر وريث. حسناً. ومنافس الصهر هو ابن الأخت وحده. "تو ماتش". الثانية هي الغير طبيعية أكثر من الأولى. هذه طريقتي باشتمام رائحة الحالة المرَضية. طبعا أضع جانباً هنا الاعتبارات الصراعية التي يشهدها داخل لبنان وخارجه كل تيار شعبي واسع عندما يتقدم في السن وفي السلطة ويتمأسس ويتشقّق حول مصالح ومواقع. من تاريخنا المعاصر المثال الأقرب حركة "فتح". لن أقول "البعث" لأن "البعث" حركة نخبوية قبل السلطة ومعها. حكَمَ دولا ولكنه لم يكن شعبياَ حتى لو أنه ضمّ في الخمسينات بعض أهم النخب السياسية في المشرق. على أي حال هذه حالات ثلاث مختلفة يجب المقارنة بينها بحذر منهجي شديد.
أظهرت البيئة السياسية المسيحية منذ تأسيس الدولة اللبنانية قدرة أكيدة وجدية على تغيير قواها السياسية الأساسية. صحيح أن اللعبة تبدو في هذه البيئة أحياناً أقرب إلى انتقال شبيه بتصنيف فِرقِ كرةِ القدم حيث ينتقل فريق قديم من الدرجة الأولى إلى الثانية ولكن هذه اللعبة شهدت مراراً استيلاد قوى جديدة إلى الصدارة وبشكل دوري: "الكتائب" وكميل شمعون في الخمسينات وما بعدها وتراجع بل تلاشي "الكتلة الدستورية"، ثم تلاشي "الكتلة الوطنية" واستيلاد "القوات اللبنانية" من داخل الرحم الكتائبي وتراجع الكتائب ثم الحدث المحلي الكبير بولادة التيار الوطني الحر العوني في ما مثّل من نبض الممانعة المسيحية الأخير في الحرب الأهلية قبل انتقال التوازن السلطوي إلى الأنظمة السعودية الإيرانية السورية بعد 1990 وقواها الصاعدة المحلية. والباب، باب التحول مفتوح بأشكال مختلفة ربما أخَّرهُ وجدّده في آنٍ معاً احتمال انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. لكن لا شك أن وضع التيار بات أساساً مرتبطا بحياة ميشال عون نفسها. ما بعدها صار أصعب والتشققات ظاهرة رغم مظاهر الانتشار الحقيقي.
تيار المستقبل:
لا شك أن تيار المستقبل أو الحريرية السياسية لن تكون هي نفسها بعد الصدمة السعودية التي تعرّضت لها عبر سعد الحريري. لا زلت لم أفهم شخصيا ماذا تستفيد المرجعية السعودية، وهي بلد المنشأ للحريرية مثلما إيران لـ"حزب الله"، من "تدمير" مصداقية وهيبة هذا التيار أو من التسريع فيهما، دون أن يتضح أي بديل تخطط له. صحيح أن السعودية كانت دائما قوية في السياسة اللبنانية وبنيوية التأثير عند سُنَّته حتى في العهد الناصري الكاريزماتيكي، ولكن المرة الأولى التي سيطرت فيها مركزياً على الطائفة السنية، المرة الأولى وعبر حزب مركزي تحول من ظاهرة مالية أساسا إلى ظاهرة شعبية واستئصالية سياسياً هي مع الحريرية وتيارها "المستقبل". لذلك وهي تهين يومياً سعد الحريري (هل يدرك الأخ سعد معنى عدم دفع الرواتب في الحريرية؟ هذا يشبه التخلّي الإيراني عن البنية الأمنية في "حزب الله"! المال هنا، الأمن هناك، عَصَبان تكوينيان حتى لو امتزجت فيهما لاحقا العناصر الأخرى). لا نعرف ما هو البديل السعودي. ما نراه حتى الآن هو عودة زعامات المدن ولاحقاً الأرياف بأسماء قديمة وجديدة عند السُنة وبدأ ذلك في طرابلس مع الجنرال ريفي، طبعا مع ثبات حريري أطول في صيدا بسبب خصوصية دور السيدة بهية، بينما في بيروت الأمر غامض وربما هش، باستثناء حالة تمام سلام بسبب عدم وجود أسماء مهيّأة على المستوى الشعبي.
هناك جوابان مرتبكان أسمعهما حالياً حول هذا الموقف السعودي: واحدٌ يقول أن القيادة السعودية غير قلقة من هذه الناحية لأنها تعرف أنها تستطيع السيطرة على البيئة السنية اللبنانية متى أرادت بالحريرية أو بأشكال أخرى؟ أما الجواب الآخر الذي يتردّد وأتحفّظ عليه فهو أن هذا الإضعاف للحريرية مرتبط في القرار السعودي بتراجع دور البيئة السنية اللبنانية في استراتيجية النفوذ السعودي في المنطقة؟
الحالة الشيعية السلطوية تبدو حالياً الأكثر ثباتاً بسبب استمرار تمسك إيران والنظام السوري بدوري "أمل" و"حزب الله"، التمسك الشديد فيما يقدّم هذان الطرفان المحليان "نموذجاً" لا زال قوياً للضبط الشعبي والأهم الأمني، الشديد حين يلزم الأمر ناهيك عن شبكة واسعة من المصالح داخل الدولة وعودة "حسن الطالع" المالي لاقتصاد "حزب الله" الرديف مع عودة الكتلة المالية البترو-دولارية الإيرانية إلى التحليق في سماء الشرق الأوسط من نيويورك نحو طهران بعد الاتفاق النووي.
باختصار: معالم التعب بدأت في العونية، معالم الضعف بدأت في الحريرية، معالم السطوة ثابتة في الثنائية الشيعية وأهم مظاهرها سحق وانسحاق (معاً) أي معارضة ممكنة على مدى ربما جيل بكامله ولا مجال للتغيير قبل بدء التغيير في المنطقة. أما اللاهثون وراء أوهام الانتخابات البلدية، فالتجربة الأخيرة أظهرت أن الثنائي الأمني الشعبي "تسلّى" بالشيوعيين كما تتسلّى الذئاب (أو الثعالب لمن لا تعجبه الصفة الأولى) الشبعانة بفريستها الحيّة، خصوصا حين تقرر أن تصادقها!.
دعوني لا أَكُنْ خبيثاً هنا:
أنا من مجموعة من المواطنين تتمنى أن تتحول كل طائفة إلى تيارات متعددة متنافسة قوية كما يحصل فقط عند المسيحيين في لبنان الحالي. ولذلك لستُ توحيدياً لأي طائفة وإن كنتُ طبعا كالكثيرين أرى سلامة الكيان اللبناني الموحد مهمة فاضلة لا يصنعها اللبنانيون اليوم ولن تصنعها الطائفيات المسيطرة على الطوائف اللبنانية.