تبدو الغارة التي شنتها “خطأ” قوات “التحالف الدولي ضد داعش” ضد مواقع للجيش السوري في دير الزور، السبت الماضي، تصـويبا لخطيئة ارتكبتهـا واشنطـن طوال عهد الرئيس باراك أوباما في تجنيب قـوات النظام السوري أي خطـر يوقـف المجـازر التي ترتكب منذ عام 2011 ضد الشعب السوري في أحيائه ومدنه وقراه.
تعرف دمشق، كما أعلنت “مستشارة الرئيس” بثينة شعبان، أن غارة دير الزور ليست خطأ، بل ارتكبت عن سابق تصوّر وتصميم. وتعرف موسكو ذلك أيضا إلى حدّ اتهامها واشنطـن بأنها “متواطئة” مع تنظيـم داعش. ويعـرف كل الخبراء العسكريين كما كل المراقبين المتابعين لشأن العمليات العسكرية المتعددة الجنسيات في سوريا أن ارتكاب الخطأ مستحيل، وأن للغارة أهدافا ورسائل لا تخفى على من يهمه الأمر.
من يعيد تفحّص ما ظهر وما خفي من اتفاق الهدنة بين سيرغي لافروف الروسي وجون كيري الأميركي سيلحظ بسهولة صبيانية أميركية متعجّلة في إبرام صفقة ليلية ستنسف عن بكرة أبيها حال انبلاج الفجر.
بدا كيري مستعجلا في إنتاج اتفاق صوري عن هدنة متخيّلة تريح سيّد البيت الأبيض في أسابيعه الأخيرة رئيسا للبلاد، وتثري سيرة الوزير الذاتية في إنجاز ينسب إليه قبل أسابيع من مغادرته قيادة الدبلوماسية الأميركية.
وبدا للوزير الروسي أن نظيره الأميركي ينطق باسم القوة العظمى في العالم التي ستستسلم لرؤى روسيا الكاملة في سوريا تحت عنوان الشراكة وقيام غرفة عمليات مشتركة تلفظ عمليا يمين الطلاق مع المعارضة، كل المعارضة، وتعترف عمليا بالشراكة الكاملة مع النظام السوري في دمشق.
قد كان بإمكان كيري تمرير تلك الصفقة في سكون ذلك الليل بعد أن استبقها بإرسال المبعوث الأميركي مايكل راتني لتبشير المعارضة بمفاتن الاتفاق ومحاسنه، لا سيما أن راتني نفسه كان نبه تلك المعارضة قبل أسابيع إلى أن جلّ ما تفعله إدارة بلاده هو السعيّ لدى موسكو لعدم “سحق” المعارضة والبطش بها.
وفي تسريب “التنبيه” ثم تسريب “التبشير” ما عمل على إقنـاع الجانب الروسي بأن “الشريك” الأميركي جاد ومتفان في إخضاع المعارضة وترويضها وفق قواعد وشروط ما يتم إعداده داخل الغرف المغلقة التي تجمع وزيري خارجية البلدين.
كان بإمكان ذلك الهمس الليلي أن ينتج ثمارا لولا أن الوزيرين ارتكبا خطيئة كان لا يجب أن تفوت على رجلين خبرا العلاقة بين البلدين منذ أن كانت روسيا اتحادا سوفياتيا.
تخيّل سيرغي لافروف، والرئيس فلاديمير بوتين من ورائه، أن الولايات المتحدة تجاوزت منذ زمن عقلية الحرب الباردة، وأن تعاونا عسكريا مخابراتيا بين أعداء الأمس بات ممكنا، لا سيما وفق “عقيدة أوباما” التي قد تُختصر بأنها تقترب من فلسفة يسوعية تدير الخدّ الأيسر لمن يضرب الخدّ الأيمن.
لكن الأنكى في حكايات الليل أن كيري ابن المؤسسة السياسية الأميركية تخيّل أيضا ما تصوّره نظيره الروسي من أن كشف المخابرات الأميركية عن كنوزها للكرملين لا يحتاج إلا إلى هدنة مدتها أسبوع هرولت دمشق وطهران إلى القبول بها بسرعة قياسية لافتة، وأن توقيعه على اتفاق الليل سيلقى تصفيقا داخل كافة مؤسسات القرار في واشنطن صباحا.
لم يكن يكفي أن يعبّر وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، عن تحفظه على الاتفاق وامتعاضه من مسألة تسليم المعلومات الاستخبارية لروسيا التي “لا نثق بها”.
لم يكن يكفي أن يخرج الخلاف إلى العلـن بين المؤسسة العسكرية الأمنية المتمثلة بالبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) من جهة والمؤسسة السياسية المتمثّلة بالبيت الأبيض ووزارة الخارجية من جهة ثانية. لم يكن يكفي أن يستضيف الرئيس أوباما اجتماعا بين المختلفين ليدلي بدلو داعم لوزير خارجيته خفف من لهجة وزير دفـاعه وتعثّر مزاجه. بدا أن الأمر من الخطورة بحيث توقّع “الولايات المتحدة العميقة”، إذا جاز التعبير اعتراضا، بالنار في غارة جوية استهدفت ما استهدفت في دير الزور.
تحاول روسيا لفلفة ما تعرّضت له قافلة مساعدات إنسانية تابعة للأمم المتحدة كانت متجهة إلى حلب الاثنين الماضي، فيما تجوز المقارنة بين الفعل-الخطأ الذي مورس أميركيا وردّ الفعل-العار الذي مورس من قبل محور دمشق-موسكو.
ارتكبت واشنطن خطأ اعترفت به، وأوحت من خلاله بأنها قد ترتكب أخطاء أخرى إذا ما تجاوز المتجاوزون، روسا كانوا أم أميركيين، لخطوط حمراء.
يُعلمنا الحدث أن طائرات أسترالية وبريطانية قد اعترتها نفس الغشاوة التي أفضت إلى المشاركة في ارتكاب غارة دير الزور الشهيرة وإصابة أهداف عن “طريق الخطأ”.
ونستنتج من رسائل الحدث أن أذرع القوة النارية تجبّ بسهولة ما ارتكبته قفـازات الدبلوماسية، وأن المؤسسة الأميركية العسكرية وامتداداتها داخل المؤسسات السياسية والحزبية والاقتصادية والإعلامية في الولايات المتحدة تستعد لنفض أثقال “عقيدة أوباما” حتى قبل رحيل الرجل عن حدائق البيت الأبيض.
أرسل عسكر واشنطن رسالتهم، فهم الداخل الأميركي ذلك، وهو ما سيظهر واضحا في سطور حملات المرشّحين للرئاسة في البلاد. مارس جون كيري هربا نحو الأمام في القفز لمنح “قبلة الحياة” للهدنة السورية المترنحة، فيما نفخ الرئيس أوباما من على منبر الأمم المتحدة بعظته الداعية إلى حلّ سلمي سياسي دبلوماسي للأزمة في سوريا، مكتشفا أن “روسيا تسعى لاسترجاع مجدها من خلال القوة”.
وحدها موسكو فهمت جديا الرسالة الأميركية في دير الزور. كان الكرملين قد تهيّب الغضب الأميركي حين تحرّكت القطع البحـرية الأميركية باتجاه الشـواطئ السورية عقب اتهام النظام السوري باستخدام السلاح الكيميائي ضد أهداف في غوطة دمشق (أغسطس 2013). يومها سارع وزير خارجية روسيا إلى تهدئة خواطر واشنطن ووعدها بسحب الترسانة الكيميائية من دمشق، وهذا ما حصل.
ولا شك أن الكرملين أول من يخشى هذه الأيام من مغبّة إيقاظ المارد العسكري الأميركي، وأكثر مـن يعي أن المناورات الـروسية المتقدمة منذ عام في الميدان السوري تعود فقـط (وفعلا فقط) إلى فـراغ عسكري غيّبت بـه واشنطن عسكرها عن الميـدان السوري (إلا من 500 مستشار عسكري واكبو جهود قوات سوريا الديمقراطية ضد داعش في الشمال السـوري)، وأن أي انقلاب في الأجندة الأميركية يعيد العسكر إلى دائرة الفعل يقوّض طموحات بوتين في فرض هيمنة أحادية تمسك بالمصير السوري.
قبلت موسكو شراكة أميركية في سوريا يوحي بها اتفاق الهدنة لأنه يعدُها بجهد مشترك يقضي على تنظيم النصرة (فتح الشام)، وبالتالي يدمّر جانبا أساسيا من القـوى العسكرية المنـاهضة للنظـام. كان وزير الخارجية الروسي يلحّ برتابة، منذ بداية الهدنة، متوسّلا احترام واشنطن لتعهداتها في فصل المعتدلين عن المتطرفين وفي كشف الأجهزة الأميركية عـن خرائط مواقع الخصوم في سوريا.
جاءت غارة دير الزور الملتبسة ليكتشف جون كيري فجأة بأنه من الصعوبة الفصل بين الفصائل المعتدلة وفصيل “فتح الشام”. اعتمد “أصدقاء سوريا” الأمر في نيويورك وطووا الصفحة.
محمد قواص: العرب