إذا كان العماد ميشال عون قد نسَّق تصعيده السياسي مع "حزب الله"، فالتصعيد سيحقّق هدفاً معيناً، لأنّ "الحزب" لا يتحرّك إلا وفق خطط وروزنامات واضحة. فإذا فشلت الخطة "أ"، تكون الخطة "ب" جاهزة للتنفيذ. لكنّ تصعيد عون يبدو مبادرة فردية، بل هو رسالة إلى الحلفاء قبل الخصوم، ومنهم "حزب الله". لذلك، لا بدّ أن يتدبّر عون أمره بنفسه. فهو يواجه التحدّي وحيداً: هل ينجح في استثمار التصعيد سياسياً أو يفشل؟
توحي خطوة عون بأنها ذات طابع "شمشوني"، وأنها أقرب إلى الارتجال، وليست مبرمجة لبلوغ الأهداف التي يريد عون الضغط لتحقيقها، وتحديداً إجبار الجميع على القبول به رئيساً للجمهورية. وكل ما في الأمر هو أنّ عون سيقف ويصرخ في وجه الجميع ويهدّدهم بأنه قادر على التعطيل إن لم يكن جزءاً من الحل.
في 28 أيلول، سيطلق عون سلسلة تحركاته الشعبية. وفي مدى أسبوعين، أي حتى 13 تشرين الأول، سيبلغ التصعيد مداه سياسياً (في الحكومة والمجلس) وفي الشارع. ولكن، بالتأكيد، لن يُنتَخب رئيس للجمهورية في 28 أيلول. وعلى الأرجح، سيكون موعد الجلسة التالية، الرقم 46، بعد 13 تشرين لا قبله. وقد يقرر عون جولة التصعيد التالية في هذا الموعد.
ولكن، بدءاً من 11 تشرين الأول، سيبدأ المجلس النيابي عقده العادي. وبعد انتخاب أعضاء هيئة مكتب المجلس، سيكون عون أمام استحقاق الاستجابة لعقد جلسات تشريعية، معظمها يتعلق بشؤون المال (الموازنة ومستتبعاتها) والتشريع الضرائبي والشفافية والتزوير، وبعضها تضغط المؤسسات الدولية على لبنان لإقراره، على غرار تلك التي جرى تمريرها "بالقوة" قبَيل انتهاء العام 2015. ويوافق "حزب الله" على إقرار هذه التشريعات التي لا علاقة مباشرة لها بالقانون الأميركي لتجفيف تمويل "الحزب".
ربما يكون عون قد تَقصَّد ضبط ساعة التصعيد على ساعة العقد التشريعي لإيصال رسالة إلى الرئيس نبيه بري الذي لا يماشيه في معركته الرئاسية. ولكن، كيف سيتصرف عون إذا تكرَّر الضغط الخارجي عليه لحضور جلسات التشريع؟ هل سيشارك كما فعل سابقاً، بعد إرضائه بأمور معينة؟
لن يجد عون دعماً من حليفه "حزب الله" في هذا التصعيد. ف"الحزب" يحاول اليوم أن يمشي بين النقاط. فهو يتمسّك بتظهير صورته أمام المجتمع الدولي كعامل إيجابي في اللعبة السياسية الداخلية. وهو يمارس هامشاً واسعاً من المناورة مع خصومه السياسيين والمذهبيين داخل الأطر الحوارية والمؤسساتية. وفيما الحوار الوطني معلّق، يتمسّك"الحزب"بالحوار المذهبي الثنائي. وفي مقابل كل ذلك، يعتمد "الحزب" سياسة "التنفيس الدائم" مع الحليف المسيحي، ما يَحول دون انفجاره.
سيمضي "حزب الله" في موقف الوسيط بين الحليفين بري وعون، وحتى بين عون وخصمه تيار "المستقبل" إذا استطاع. ففي أوساط "المستقبل" مَن يعتقد أنّ "الحزب" يقف وراء الموجة الأخيرة من التسريبات عن موافقة الرئيس سعد الحريري على دعم عون. والهدف من ذلك هو "تبريد" عون والحدّ من اندفاعه في التصعيد الذي يتسبَّب لـ"الحزب" بالإحراج.
وما يقال عن حليف عون الشيعي ينطبق أيضاً على الحليف المسيحي. فـ"القوات اللبنانية"، منذ العام 2005، تتجنّب الخيارات التصعيدية التي لا يمكن تثميرها سياسياً. وهذا ما يفسِّر التبدلات البراغماتية التي تطرأ أحياناً على مواقفها، وفي شكل يبدو مفاجئاً وغير مبرَّر بالنسبة إلى كثيرين، ومنها مثلاً الانسحاب من "القانون الأورثوذكسي" وإعلان دعم عون في معركته الرئاسية.
ستلتزم "القوات اللبنانية" دعم عون سياسياً في معركته، وقد توحي في بعض المراحل بأنها مستعدة لمشاركته بعض الحراك في الشارع، من أجل بلوغ أهداف سياسية مشتركة. لكن "القوات" تتموضع في منطقة تحالفات حسّاسة بين عون و"المستقبل" وسائر قوى 14 آذار والنائب وليد جنبلاط، وهي لا تبدو في صدد التصعيد بلا سقف وبلا هدف.
إذاً، المثير في "الانفجار" العوني أنه يُحرج الحلفاء لا الخصوم. وعلى العكس، إنّ العلاقة مع تيار "المستقبل تبدو، من الخارج على الأقل، أفضل ممّا كانت بالأمس القريب، بمعزل عمّا إذا كان الحريري سيُبدي ليونة لجهة دعم عون أو لا".
ولذلك، يجدر بعون أن يحدِّد: مَن هو الطرف المُستهدف بحراكه التصعيدي: حلفاؤه السياسيون أم خصومه؟ وهل هناك خطوط حُمر أو آجال زمنية يريد أن يتوقف عندها، وما هي؟ وما هو الثمن الذي يرضى به عون مقابل تراجعه: وصوله شخصياً إلى بعبدا أم هناك أثمان أخرى من نوع "جوائز الترضية"؟
والأهم هو: هل تتضمن روزنامة عون بدائل لفشل التصعيد السياسي والشعبي- إذا وصل إلى الفشل- وما هي؟ وفي عبارة أخرى، ماذا سيفعل عون بعد أن يبلغ ذروة التصعيد في 13 تشرين الأول؟ هل سيبدأ البحث عن مُبرِّرات للتراجع؟
إنّ رمزية 13 تشرين تقوم على عبارة عون الشهيرة: "تستطيعون أن تسحقوني، لكنكم عاجزون عن الحصول على توقيعي". واستعادة هذه الرمزية قد تؤدي غايتها في تحريك مشاعر الاستهداف والاستضعاف التاريخيين في عمق الوجدان المسيحي في لبنان والمشرق. لكنها لن تفعل فعلها في إقناع الآخرين، خصوصاً أنّ الذين استَهدفوا عون في 13 تشرين 1990 هم أنفسهم حلفاء اليوم!
المتوقّع، بعد 13 تشرين، هو أن يعود العماد عون إلى ما هو عليه اليوم وينتظر. فالمعارك المسيحية، في هذه الأيام، ليس مكتوباً لها بلوغ الخواتيم السعيدة.