يعود الوفد اللبناني من نيويورك بنتيجة أساسية وهي عدم تحقّق أيّ اختراق جوهري لأزمة النزوح السوري في لبنان.ترسم مصادر واكبت نقاشات ملف النازحين السوريين كما تفاعلت داخل كواليس اجتماعات نيويورك واجتماعات مهّدت له، الصورة وفق الآتي:
صار واضحاً أنّ المجتمع الدولي حدَّد خطته، ولو غير المعلنة، لكيفية تعامله مع دول جوار سوريا المضيفة للنازحين السوريين. وهو ينطلق من زوايا أساسية عدة؛ أبرزها أنّ قضية النازحين تحوّلت قضية أمنية وسياسية اوروبية. ويتركز هَمّ الغرب على منع تحول النازحين أزمة داخل المجتمع الاوروبي، وذلك عبر العمل لتثبيتهم في دول جوار سوريا.
وعليه، فإنّ همّ الغرب الآن يقع في اتجاهين: الأول تثبيتهم في لبنان والاردن عبر منحهم امتيازات فيهما، ما يجعلهم غير راغبين بالتسرّب منهما الى أوروبا بحثاً عن فرص حياة افضل، والثاني القيام بمبادلة مع تركيا للنازحين السوريين تؤدي الى إعادة النازحين غير الكفوئين من أوروبا الى تركيا، في مقابل ان تستقبل اوروبا النازحين الكفوئين الذين يقيمون في تركيا.
أنقرة اعترضت على هذا الاقتراح ووصفته بأنه غير انساني؛ وهي ضمنياً تريد في الواقع أن تصعّب أيّ حل لأزمة النازحين مع اوروبا لدفع الاتحاد الاوروبي في النهاية إلى الموافقة على حلّ استيعابهم في المنطقة الامنية التي تقترحها انقرة على حدودها داخل سوريا. لكنّ واشنطن ترفض هذا الحل التركي، لأنها ترى فيه وصفة سريعة لتحوّل هذه المنطقة قاعدة انطلاق لـ"داعش" او للمجموعات الاسلامية المتطرفة.
السؤال الذي لا يزال الغرب يراوغ بصدد تقديم إجابة عنه، فحواه: ضمن ايّ صيغة سيتم استيعاب هؤلاء النازحين في دول جوار سوريا المضيفة؟
منذ مؤتمر لندن الدولي قبل اشهر وحتى مؤتمري نيويورك قبل أيام؛ تستمر معادلة المراوحة ذاتها؛ وذلك على مستوى أنّ المجتمع الدولي يحاول تقديم اقتراحات تجريبية، يهدف من خلالها إلى جسّ نبض قبولها من دول جوار سوريا المضيفة للنازحين؛ ومن ناحية ثانية احتساب قدرة المجتمع الدولي على تمويلها.
وراء كل هذه المناورات الدولية التي تشكل الخلفية الاساسية لعقد مؤتمرات حل أزمة النازحين، هناك حقائق بدأت تتكشف بالمعلومات عن حقيقة رؤية الغرب لكيفية حل هذه القضية، وهي تقع في اربعة خيارات، وكلها تفاضل بين اي نموذج أفضل لحالتهم، هل هو المطبّق على اللاجئين الفلسطينيين في الاردن ام في لبنان ام في سوريا ام في غزة؟
يعني نموذج الاردن "توطين النازحين السوريين مع حقوق سياسية على المدى الطويل"، فيما يعني "نموذج سوريا" توطينهم مع حقوق مواطنية من دون سياسية (عمل، طبابة، تعليم؛ الخ...)، فيما يعني "نموذج لبنان"، توطينهم مع قيود على عمالتهم وطبابتهم وتعليمهم...
امّا توطينهم وفق "نموذج غزة" فيعني توفير إقامة لهم ضمن غيتوات ومدن مغلقة ومحاصرة تشرف على امنها وتسيير أعمالها الامم المتحدة بالتنسيق مع هيئات نازحين أهلية داخلها (أي خارج سيادة الدولة المضيفة وأشبه بمناطق حكم ذاتي).
تلفت هذه المصادر الى انّ المجتمع الدولي يتبع في تفاوضه حول إيواء النازحين السوريين أساليب برغماتية وعملية؛ فهو يتدرج من أسفل خياراته الى أعلاها. وبالنسبة اليه فإنّ خياره الأقصى هو توطينهم في دول جوار سوريا وفق نموذج اللجوء الفلسطيني في الاردن، واذا ثبت له جدية رفض الدول المعنية لهذا التوجه، فهو ينحدر نزولاً نحو خياره الثاني المتمثّل بنموذج غزة، وفي حال رفضه ايضاً ينحدر أسفلاً للانتقاء بين نموذجي لبنان وسوريا، وهو دائماً يستخدم كلمة «توطين» مع تقديم إيضاحات عن أنّ معناها ليس تصفية فكرة عودتهم الى بلدهم او تحولهم مواطنين في البلد المضيف، مع تشديده على انّ هذه «العودة يجب الّا تحصل بالإكراه».
وتفيد معلومات مستقاة من مصادر مواكبة لهذا الملف في باريس، انّ فكرة استيعاب النازحين ضمن مدن مقفلة في لبنان والاردن وتركيا، طرحت بقوة عشيّة التحضير لمؤتمري نيويورك. ومفاد هذا الطرح يتكوّن من ثلاث نقاط:
١ - تجميع النازحين في الدول المضيفة لهم ضمن مدن تنشئها لهم الامم المتحدة، وهي تضم كل احتياجاتهم التعليمية والاقتصادية والطبية.
٢ - تكون هذه المدن مقفلة وبرعاية مباشرة من الامم المتحدة، ولا سلطة داخلها للدولة التي توجد فيها هذه المدن. ولا يحق لأي نازح الخروج من هذه المدن إلّا بإذن من سلطة الامم المتحدة فيها.
٣ - تموّل الامم المتحدة بالتعاون مع مصارف، إنشاء بنى تحتية كاملة لهذه المدن تسمح بخلق فرص عمل للنازحين فيها وتلبية كل احتياجاتهم المعيشية والحياتية.
تبقى الاشارة الى انه وفق تقاليد مفاهيم الامم المتحدة، فإنّ هذا النوع من الحلول الذي يوصي ببناء مدن مقفلة لاستيعاب النازحين، يتمّ اتّباعه في حال توقعت أنّ عمر استمرار الاسباب التي أدت للنزوح سيستمر الى اكثر من ١٥ عاماً.
وقبل فترة من طرح فكرة إنشاء مدن مغلقة التي ووجهت بتحفظات حتى داخل الغرب خوفاً من تحوّلها غيتوات تفرز حالات اسلامية متشددة، كان قد تمّ تداول فكرة إنشاء منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة، مشابهة للأونروا الفلسطينية، تكون مهمتها الاهتمام بالنازحين السوريين في كل العالم وليس فقط في لبنان وبقية دول جوار سوريا، لكن هذه الفكرة لاقت رفضاً كبيراً لأنها تحولهم قضية سياسية وتوحي بأنّ عودتهم لاحقاً الى بلدهم غير قابلة للتحقق.
وتضيف المصادر عينها أنّ سلوك المجتمع الدولي خلال اعمال مؤتمري نيويورك الاخير، لم يخرج عن مناورة التدرج وجسّ نبض الدول المضيفة للنازحين؛ علماً أنّ كل المؤشرات توحي بأنّ القرار الدولي لجهة حسم هذا الملف، يراوح بين الاستقرار على احد النموذجين لتطبيقه على النازحين في دول جوار سوريا؛ وإمّا النموذج المطبّق على اللجوء الفلسطيني في سوريا او المطبّق في لبنان.
وتوضح هذه المصادر أنّ الموقف اللبناني من النازحين السوريين كما يترجم في المحافل الدولية ومؤتمراتها ذات الصِّلة بهذا الملف، ينطوي على ضعف خطر لأنه يعكس أنّ لبنان ينظر اليه من زوايا عدة وأنّ فريق قراره الرسمي منقسم بين ثلاثة آراء حوله:
فمن جهة هناك فريق داخل الموقف اللبناني الرسمي متساهل مع بقائهم ولا يبدي حساسية طائفية حيالهم، ويبدو مستعداً لمسايرة «توطينهم» حتى وفق النموذج الأردني او ما دونه، شرط ان يكسب الحد الأعلى من العطاء الدولي في المقابل.
وفريق آخر منه (يمثّله الوزير جبران باسيل) يحذّر من أنّ لبنان يرفض توطينهم لأنّه يخلّ بالتوازن الداخلي ويضرّ بمستقبل المسيحيين، ويوحي باستعداده للذهاب حتى إلى خيار "مقاومة" أي مشروع يرسّخ وجود النازحين في لبنان ضمن اي مستوى. وموقف ثالث يمثّله وزير التربية الياس بو صعب وهو يتوسّل ضمنياً- بحيث لا يبدو أنه يفترق عن رأي باسيل - صيغة تراعي من ناحية خوف المسيحيين من وجود كتلة سنية كبيرة وافدة، ومن جهة ثانية لا تحرم لبنان فرصة الإفادة من انّ وجود النازحين سيجذب أموالاً دولية الى لبنان تحقق طفرة تنمية فيه.
ناصر شرارة | الجمهورية