أولاً: بشير الجميل
لو أردنا اليوم تكوين صورة محايدة عن الرئيس بشير الجميل الذي قضى غيلة عام ١٩٨٢ قبل استلامه منصب الرئاسة الأولى في البلاد، لتوضّحت لنا صورة قائد ميليشيا انتفض ضد السلاح الفلسطيني الذي انتشر في طول البلاد وعرضها بعد اتفاقية القاهرة بين المقاومة الفلسطينية والسلطة اللبنانية عام ١٩٦٨ وأحداث أيلول الأردنية عام ١٩٧٠، وتدفق المقاتلين الفلسطينيين إلى لبنان. ووقف وراء الجميل حزب الكتائب اليميني والعريق في السياسة اللبنانية، كذلك الجبهة اللبنانية ، والتي كان الرئيس الراحل سليمان فرنجية المُرحّل من قصر بعبدا أحد اعمدتها مع الشيخ بيار الجميل والرئيس كميل شمعون، وكان بشير يُفاخر بمسيحيته، إلاّ أنّه لم ينتقص يوماً من أهمية شريكه المسلم، وكان يؤمن إيماناً مطلقاً بقيامة لبنان الموحّد، بقدر إيمانه بضرورة قيام الدولة بسيادتها الكاملة على أراضيها المحددة منذ قيام دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ ، لذا كان يرى ضرورة استئصال شأفة الفلسطينيين، ونزع سلاحهم، ولو أمكن الأمر لأعاد توزيعهم على البلاد العربية مع استحالة عودتهم إلى فلسطين، أمّا السوريين فيجب أن يخرجوا من لبنان ويتعلّموا دروسا كافية لاحترام سيادته وحدوده، واندفع بشير في سبيل ذلك إلى اعتماد كل ما يمكن أن يساعد على قيام الدولة، وأوصلته اندفاعته هذه إلى التعامل الصريح والخطر مع العدو الإسرائيلي، طبعا هو كان يعتقد أنّ الفلسطينيي هو العدو الحقيقي، وخاض في سبيل ذلك معارك ضارية محفوظة في سجلّ الحرب الأهلية اللبنانية، وبقي من تاريخ بشير أنّه رفع ودافع عن شعار ال ١٠٤٥٢ كلم مربع، مساحة لبنان غير منقوصة وغير منتهكة السيادة، وساعد انتخابه رئيساً لكل لبنان انعطافة حادة في فكره وسلوكه، فحمل خلال الأيام المعدودة التي تلت انتخابه خطاباً وطنياً مع نشوة الظفر وأشاع مناخاً بضرورة قيام مؤسسات الدولة على أسس جديدة وشفافة، وإذا صحّت روايات وقوفه في وجه مناحيم بيغن ،رئيس وزراء إسرائيل، بأنّه لا يستطيع أن يعد باتفاق سلام مع إسرائيل قبل اكتمال السلطة اللبنانية وموافقة رئيس الوزراء المسلم على ذلك، فيكون بذلك قد حاول أن يقف في وجه وصاية إسرائيلية قادمة ووليدة من رحم الاجتياح الإسرائيلي، وذُكر أنّه قال بعد مقابلة بيغن المشهورة: لم ننتفض لنستبدل وصاية سورية بوصاية إسرائيلة، هذا البلد يجب أن يكون حرّاً وسيّدا ومستقلاً، وهذا ما حاول إبلاغه للاميركيين طالبا المساعدة وفي مقدمها المساعدة العسكرية، وفي طليعتها سلاح جو قادر وفاعل، ولم تتحقّق أماني ومجازفات وطموحات بشير، ودخل باكراً في ذمة التاريخ، ليسقط البلد بعد ذلك لُقمة سائغة بين فكّي الوصاية السورية وقادة ميليشيات الحرب الذين تواثبوا على كراسي الحكم، وما زالوا حتى بعد الخروج السوري من لبنان، وأضافوا إلى ناديهم الجنرال عون، وفي كل الحالات كان أحد أركان الحرب الأهلية.
ثانياً: جبران باسيل...
يحاول باسيل هذه الأيام أن يُقلّد بشير الجميل، فيخترع هموما مزيفة للمسيحيين، وينسبها لهم، في حين أنّ البلد لا يعاني من هكذا أوهام، ومصائبه أكبر بكثير من هم طائفة هنا أو هناك، وهي طبعا أكبر من باسيل وتياره، ولعلّها أكبر من أقطاب السياسة اللبنانية، وفي طليعة المصائب السلاح غير الشرعي المنتشر في طول البلاد وعرضها، وبعضه يحمل علامة الشرعية ويتباهى بذلك، والحرب السورية تقضّ مضاجع الجميع بعد انخراط حزب الله في هذه الحرب بقوة، وتدفّق النازحين وتفاقم متطلباتهم المختلفة، وباسيل يحاول أن يتصدر واجهة الأحداث باعتباره رجل دولة مؤهل لحل معضلات مستعصية منذ زمن الوصاية السورية، في حين لا يعدو كونه زعيم فريق طائفي متعصب، وضيّق الأفق، ويكاد أن يكون هذه الأيام أفضل ممثل للفكر الانعزالي المعادي للعرب والمسلمين، هذا الفكر الذي حمله طويلاً بيار الجميل وكميل شمعون، وهو يُقارب بشير الجميل هنا، إلاّ أنّه يفترق عنه بما لا يقاس عندما يهادن السلاح غير الشرعي، ويعقد تحالفا مقدساً مع حامليه، ويستقوي به، أي بالسلاح غير الشرعي على الدولة ومؤسساتها، ولا يتورع عن هدم هذه المؤسسات بحجز المقعد الرئاسي لصالح عمه الجنرال عون، ولو أدّى ذلك إلى زعزعة الكيان وتخريب النظام برمّته، وهنا تظهر صورة مُشوّهة جدا عن بشير الجميل بشخص باسيل، ونستطيع القول ربما، أنّه لو قُيّض لبشير أن يظهر اليوم على مسرح الأحداث اللبنانية، واستلام زمام أمور المسيحيين، لقطع دابر جبران باسيل، قبل القيام بأي عمل آخر، لفداحة الأضرار التي يسببها للمسيحيين أولاً ولبنان تالياً، وهذا خلاف ما يقوم به قائد القوات اللبنانية، أكبر ساكت عن مخازي باسيل وتياره.