لم يعد ينقص لبنان سوى الدعوة الى حمل السلاح والشروع بإطلاق النار والدخول في متاهة حرب أهلية جديدة، تعيد سيرة سابقتها، وتشعل ذلك الجحيم الذي تعيشه مختلف الطوائف، سواء في علاقتها مع بعضها أو مع الاخر..السوري هذه المرة. حتى الان ما زال يمكن احتواء تلك التعبئة اللبنانية ضد النازحين السوريين، ووضعها في سياق محاولة التخفف من أعبائهم المرهقة فعلا، والتوسل للمزيد من أموال المجتمع الدولي والجهات المانحة. لكنها يوماً بعد يوم تمس وتراً مشدوداً جداً بين الطوائف التي لا تخفي ضيقها من العيش معا، وتوقها الى التخلص من الآخر او الانفصال عنه بأي ثمن.
الذاكرة اللبنانية تُقارن وتُحيي مرة أخرى صور نزوحٍ مختلفٍ عاشته مع اللاجئين الفلسطينيين منذ نكبة العام 1948، وما زال حاضراً حتى اللحظة، لكنها تتناسى ان تلك التجربة المرّة ، كانت وليدة مسؤوليات مختلفة ، تبدأ بالاحتلال الاسرائيلي طبعاً، وتنتهي عند الدولة اللبنانية التي كانت أضعف من تحمل ذلك العبء، فأختارت أسوأ السبل وأخطرها، عندما حصرت دورها في عزل المخيمات الفلسطينية وتطويقها والتعامل مع سكانها باعتبارهم "مخربين"، (حسب لغة ذلك الزمان)، وأفسحت المجال للطوائف او لبعضها للمشاركة في مثل هذه المهمة، فكان الاشتباك المسلح هو الخيار الوحيد للفلسطينيين ومحيطهم..
السيناريو نفسه يتكرر اليوم مع النازحين السوريين، الذين تُعزل مخيماتهم وتُتهم بأنها بيئة حاضنة للارهاب والارهابيين، وتُقرع أجراس الإنذار من التوطين، الذي لم ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين برغم ان عودتهم الى بلادهم تزداد صعوبة يوماً بعد يوم، ولن ينطبق على النازحين السوريين، برغم ان بلادهم تتعرض لغزو روسي إيراني مكشوف، لا يمكن، حتى الآن على الاقل، تصنيفه بانه إحتلال دائم يعادل الاحتلال الاسرائيلي، مع ما يتخلله من تغيير في الديموغرافيا السورية.
القوى السياسية المسيحية تحديداً دخلت في ما يبدو انها مزايدة حول النزوح السوري ومخاطره، تستخدم فيها بعض أنواع الاسلحة السياسية المحرمة، الخاصة بالمساكنة مع بقية الطوائف اللبنانية. خطورتها أنها، وفي تكرار شبه حرفي لتجربة لبنان مع اللجوء الفلسطيني، خرجت نهائياً عن خطاب الاجماع الوطني الممكن، والرافض لتحميل لبنان عبء كتلة بشرية توازي ثلث عدد سكانها او تزيد. وباتت تطرح أفكاراً خرافية لتصنيف النازحين السوريين، وإعادتهم الى "مناطق سورية آمنة"، عجز المجتمع الدولي كله عن إنشائها، وتوزيع بقيتهم على اوروبا واميركا وغيرها من بلدان اللجوء التي سبق أن أقفلت حدودها وسيجتها بالاسلاك الشائكة.. وأخيراً، المطالبة بدفع تعويضات مالية للبنان، بمفعول رجعي،عن الاضرار التي لحقت به طوال السنوات الخمس او الست الماضية جراء قبوله بهذا العدد من النازحين السوريين.
ثمة خطاب رسمي رصين ما زال يطرح في المحافل والمنتديات الدولية، وهو يتضمن مطالب منطقية معقولة، لكنه يتهاوى الان تحت وطأة تلك الحملة السياسية التي تغفل حقيقة ان المضي قدماً في ذلك الاتجاه، لا يخدم أي غرض سياسي، بل بات يزيد من التوتر الطائفي الى حدود تتخطى تلك التي شهدتها الحرب الاهلية، ما يمكن ان يحرم المزايدين في معركة النزوح السوري من فرص الوصول الى قصر بعبدا، بل قد يقفل طريق ذلك القصر نهائياً.
في الماضي كان اللجوء الفلسطيني ولا يزال قضية وطنية وقومية، حافظت الى حد ما على هويتها خارج القيد الطائفي اللبناني والفلسطيني. هذه المرة، يتم تجريد النزوح السوري حتى من بعده الانساني والاخلاقي العميق، الذي لا يحتمل أي توظيف سياسي، وتحويله الى مادة لنزاع أهلي لبناني أبعد وأخطر من أي وقت مضى. الأجراس التي تقرع هذه الايام محذرة من توطين النازحين السوريين، تلامس الخط الاحمر.. وأصداؤها تكاد تُسمع في بقية الارجاء اللبنانية بإعتبارها طبول حرب، ليس إلا.