تلقيت اليوم رسالة من مجموعة شباب في الناصرية، أطلقوا مبادرة ثقافية لافتة، إذ خصصوا شارعاً للكتاب في (مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار في جنوب العراق)، وأرادوا لهذا الشارع أن يكون بمثابة شارع المتنبي ببغداد، وطلبوا مني كتابة رسالة أعبر فيها عن تضامني مع هذه المبادرة الرائدة، فكانت هذه الخاطرة العاجلة:
تحية وتبجيل إلى أحبتي الشباب مؤسسي (شارع سومر للكتاب) في الناصرية.
أحبتي الكرام: ممتن لموقفكم وثقتكم وتكرمكم بالتواصل.. ما أجمل مبادرتكم الرائعة بتأسيس شارع (شارع سومر للكتاب) في الناصرية. أعدكم حين أزور مدينتي أتشرف بلقائكم.. أقترح تسمية شارع الكتب (شارع سومر للكتاب)، ففي أرض سومر اخترع الانسان حروفه الأولى، إذ بادر أسلافنا في هذه الأرض للمرة الأولى بتسجيل ذاكرة الانسان بالحروف المرسومة على الطين.. في أرض سومر ظهرت مدونات اللاهوت الأولى، والتي أقدمها (ملحمة گلگامش)، فقد كتب السومري هذه الملحمة الشهيرة في هذه الأرض، والتي صاغت أول جواب لأعمق سؤال يتصل بالمصير البشري ومعنى الحياة، وهو سؤال تحيّر فيه كل انسان.. لقد كان هذا السؤال ومازال وسيظل هوالسؤال الميتافيزيقي الذي لا يرتوي من ظمأه بجواب، ولن يكف عن جوعه بجواب نهائي، لأنه السؤال الذي يختصر كل أسئلة الانسان.. في أور أجمل المدن وقتئذ ابتكر السومري قصيدة الخلود، ليعزف ألحانها على أوتار (قيثارة أور) الآسرة.. في سومر ظهرت أول مدونة قانون عرفها الانسان، وهي المدونة التي قام بتشريعها الملك السومري (اوركاجينا)، أحد ملوك سلالة لكش الأولى، الذي حكم نحو المدة (2351-2342 ق.م).. ربما لا يعرف أكثركم أن ولادتي كانت في قرية لا تبعد كثيراً عن دولة مدينة هذا المشرع الكبير(اوركاجينا)، الذي يجهله كثيرون من أهلنا.. الناصرية مدينة فاتنة، ذلك أن ذاكرتها العتيقة تختزن رواية فجر حضارات الكائن البشري، مثلما تختزن ذاكرتها الحديثة الفن الشعبي العراقي الساحر.. الناصرية مدينة ظهرت فيها تجارب تدشين النضال السياسي أمس، لبعض الحالمين الرومانسيين بشعب سعيد من الشباب أمثالكم.. الناصرية مدينة يختزن تاريخها القريب جذوة جهاد مقاومة الطغاة، والاستعمار البريطاني بقيادة المرحوم السيد محمد سعيد الحبوبي..
كلي ثقة أن هذه المدينة كانت وستبقى تعاند الحروب والموت والأحزان، لأنها مدينة مولعة بالولادات. مدينة لا تنام إلاّ لتستفيق عاجلاً. مدينة لا تغيب أو تُغيّب مكرهة إلاّ وتعاند التغييب بالاصرار على الحضور في العالم.. مدينة لم ولن يتعطل أو يتوقف شبابها عن ابتكار كل ما هو جميل، وابداع كل ما من شأنه أن يبني الانسان والأوطان.. الناصرية مدينة تمتلك مقدرة استثنائية على ايقاد جذوة الحياة كلما انطفأت، رغم انها كانت - وربما مازالت - مهملة منبوذة من كل أنظمة الحكم في العراق، لكن في كل مرة تنبعث هذه المدينة من رمادها، كما طائر الفينيق المسكون بالخلود.. ما أجمل مبادرتكم أحبتي، وأنتم تصنعون صورة بهيجة لمدينتنا، ترسم هذه الصورة الناصرية بالألوان المضيئة للكتاب..
الكتاب أيها الأحبة هو الضوء الذي تفضحون به الظلام.. الكتاب هو الماء الذي تنبعث به وتتجدد كل مرة الحياة.. الكتاب هو ما يبني كل لبنة محورية في مسيرة الحضارات، فليس هناك حضارة بلا كاتب وكتابة وكتاب..
محبتي ودعواتي لأصدقائي شباب الناصرية مؤسسي (شارع سومر للكتاب)، المولعين بالضوء والجمال والحياة والخلود.
عبدالجبار الرفاعي