يتواصل الحنين إلى الماضي الجميل على الرغم من كل ما نشهده من إبتكارات وإختراعات وتكنولوجيا، إذ تبقى هناك حياة ريفية عفوية تفضل العيش مع ما تكتنزه الطبيعة من خيرات الخضراوات والفواكه، بعيدًا عن الفيتامينات وبذور الكيماويات التي ترش بهدف إنتاج وحصاد سريع، فيما تقوم الجدات في الريف البقاعي بتحضير المؤونة من موسم لموسم.
تعتبر مؤونة الشتاء إسم على مسمى، فهي تموين يثير شهية أهل الريف، لضرورة التحضير لموسم يبعدهم عن نتاج «السوبرماركت» والتعاونيات الاستهلاكية، حيث أصبح كل شيء معلبًا ومصنعًا بأشكال لا طعم فيها ولا لون.
لذا مع حلول فصل الشتاء، يبدأ الفلاحون والمزارعون في البقاع بالإستعداد لمواسم «المونة»، وتنهمك العائلات البقاعية بالتحضير للعديد من الأصناف: حبوب، مجففات، مقددات، مربيات، ألبان وأجبان.. وهذه المؤونة لها تقاليد يحرص المزارع على عدم التخلي عنها، خصوصًا وأن شتاء الأرياف يحمل الصقيع والثلج والبرد القارس، حيث يصعب التنقل وتقطع الطرقات، إضافة إلى سبب رئيس هو عدم توافر الخضراوات والفواكه إلا في مواسمها التقليدية، والشيء نفسه بالنسبة إلى اللحوم ومشتقات الحليب.
تبدأ رحلة التحضير لمؤونة الشتاء من البرغل ودبس البندورة والكبيس والكشك والأجبان والمربيات ودبس الرمان وغيره، وجميعها تشكل زوادة لأهل البيت طيلة الموسم، مع حكايات عن ضرورة الثبات على تقاليد القرية البقاعية والعفوية في تحضير أصناف المؤونة.
"الكشك"
عرفت البلدات البقاعية "المؤونة الشتوية" منذ سنين ومنها إعداد الكشك حيث ينتظر أبناء منطقة بعلبك - البقاع إنخفاض درجات الحرارة، مع بدايات شهر تشرين الأول كي يبدأوا بتحضيره ما يعرف بلحم الفقير أي الكشك، الذي يعتبر من أهم المواد التي يحتفظ بها أبناء المنطقة كمادة أساسية في مؤونة الشتاء، إذ يكاد لا يخلو منزل من الكشك، وتتمثل أهمية الكشك بأنه يحتفظ بمكوناته كلّها من عام إلى آخر، وذلك يعود إلى تعقيدات عملية الإنتاج التي إن لم تراع كل تفاصيلها بدقة يمكن أن تفسد العملية.
"المكدوس"
يحتلّ مكدوس الباذنجان في البقاع رأس القائمة في المؤونة المنزلية، فهناك لا يمكن الإستغناء عنه، لا في غرف المؤونة ولا في أجنحة المعارض القروية الزراعية ولا حتى على المائدة، هكذا، يكتسب مكدوس الباذنجان مكانة خاصة لدى البقاعيين، حيث جرت العادة بأن يكون "الأول" والأصعب أيضًا، إذ ثمة "عرف نسائي" يقول إنه بمجرد الإنتهاء من إعداده تكون قد أنجزت "نصف المونة".
"خيرات الأرض"
تعتبر الخضراوات من أهم المؤن في البيت القروي وفي المدن، والمخللات من أشهرها، حيث توضع في أواني زجاجية مع الخل والملح والثوم ( الخيار، المقتة..).
كذلك فإن الفواكه المجففة والمربيات لها طعم آخر، خصوصًا "مونة" مربى المشمش والتفاح والتين، مع إضافات من السمسم والجوز والمسك، إلى جانب قوارير ماء الزهر والورد. أما التين المجفف والعنب، فهما يوضعان تحت أشعة الشمس فترة من الوقت ليتم أكلهما مع الجوز واللوز والصنوبر، بالإضافة إلى الملوخية ودبس البندورة والرمان.
"القاورما"
هناك أيضًا القاورما والذي كان له مكانة مرموقة في تراثنا، ليس هناك أطيب من البيض بقاورما، والكشك مطبوخًا بالقاورما، “والطلمية” بقورما التي تشوى أيام الشتاء فوق الموقد من منا لا يتذكر هذا النوع من الطعام؟
كان الناس يعلفون خروفًا صغيرًا في أيام الصيف حتى يسمن، ثم يذبحونه أول الشتاء قسم منه يطبخونه قاورما، تجتمع النسوة للمساعدة على فرم اللحمة ثم تطبخ وتعبأ في وعاء من الفخار  وقسم اخر يتم تمليحه جيدًا ويعلق في الهواء حتى يجف.
لا يزال سكان الكثير من المناطق البقاعية يحافظون على أصالة التقاليد الغذائية الشعبية، ويعتمدون على "المونة" التي نراها في الخوابي والفخاريات والخزائن.
ففي الصيف من كل عام، تتفرغ السيدات وربات البيوت لتحضير "مونة" العام المقبل، التي تضم مأكولات متنوعة ومربى بأنواعه والعديد من الحبوب المختلفة.
تدوم معظم المؤن طوال السنة، وتحافظ على الشروط الصحية دون أن تتعرض إلى التلف لأنها تخزن في أوعية مصممة خصيصًا لحفظها.