الأرجح أنّ جبهة فتح الشام ستزداد قوّة ونفوذاً، رغم الاتفاق الروسي – الأميركي على وضعها على لائحة الإرهاب، وربما بسبب ذلك ستقوى وتتقدم في الميدان السوري.
ففي مقابلته الأخيرة على قناة الجزيرة أكد أمير تنظيم جبهة فتح الشام “أبومحمد الجولاني” أن “التركيز حاليا على اندماج الفصائل المتواجدة على الساحة السورية”، ولفت الجولاني إلى أنّ المعركة بالنسبة إليهم هي معركة وجود ضد “المشروع الرافضي” المدعوم أميركيا، موضحا أن الهدف الذي يسعى إليه هو “إنشاء كيان قوي لأهل السنة يجمع شملهم”.
لم ينفع جبهة فتح الشام إعلان فك ارتباطها بتنظيم القاعدة، ولا تبديل اسمها من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام، لكي يتمّ إدراجها ضمن فصائل المعارضة السورية، بل أصرّت موسكو وواشنطن على عدم النظر إلى خطوة فكّ الارتباط، فيما بدا أنّ مَوْقفي العاصمتين من نظام بشار الأسد ينتقلان من مبدأ تثبيت المرحلة الانتقالية كما ورد في قرارات مجلس الأمن ومؤتمر جنيف، إلى تجاوز هذه النقطة في الاتفاق الروسي الأميركي الأخير، الذي لم يتطرق مطلقا إلى المرحلة الانتقالية.
وعلى الرغم من الخطأ الأميركي بضرب مواقع للجيش السوري في دير الزور قبل ثلاثة أيام، وتأكيد واشنطن على أولوية إدخال المساعدات الغذائية إلى حلب المحاصرة، فإنّ واشنطن لم تعلن عن أيّ تغيير في الاتفاق بين الدولتين رغم المناكدة التي برزت بين مندوبي الدولتين في جلسة مجلس الأمن التشاورية التي انعقدت بدعوة من روسيا صباح الأحد، بعد الغارة الأميركية على دير الزور.
الجولاني قال كلمتين واضحتين كان يخاطب السوريين بهما في الدرجة الأولى ومن يعنيه الأمر على المستوى الإقليمي والدولي.. إذ قال إنّ هدف الاتفاق الأميركي-الروسي أن “نعلن كمعارضة الاستسلام والهزيمة”.
وهو بذلك كان يعلم أنّ آذان السوريين جاهزة لتتلقف موقفا رافضا لسياسة روسيا بتجريم المعارضة السورية وتنزيه الأسد، في لحظة تبدو فيها المعارضة السورية، التي توصف بالمعتدلة من قبل واشنطن، تتعرض للمزيد من التهميش بسبب استمرارها في مراعاة الحسابات الإقليمية والدولية، والتي تفضي إلى المزيد من تراجع نفوذها في الداخل وفي الخارج.
ظاهرة جيش الفتح هي التي تتقدم وتكتسح ميدان المعارضة في الميدان السوري، وذلك له أسباب موضوعية لا علاقة لها بكون السوريين منحازين إلى الإرهاب على حساب الاعتدال، بل لأسباب أخرى، أبرزها أنّ السياسة الدولية تضع السوريين بين خيار عملي: إمّا جيش النظام وطائرات روسيا وميليشيات الحرس الثوري وحزب الله، وإما جيش الفتح. السوريون بين هذين الخيارين يختارون جيش الفتح بلا نقاش.
أبومحمد الجولاني هو الأقوى في سوريا اليوم، لأن أدوات الخصم والعدو تجعله أقوى، اللغة المذهبية التي يرمز إليها الحضور الإيراني في سوريا ويوغل في استخدامها دفاعا عن نظام مستبد
وسبب آخر يشدّ السوريين، لا سيما الأكثرية السنية، هو أنّ السوريين شهدوا أكبر مجزرة تاريخية تعرّضت لها الأكثرية السنية في سوريا قتلا وتدميرا وتهجيرا، باسم الإرهاب حينا بشعارات مذهبية إيرانية أيضا، وباسم حماية الأقلية حينا آخر. شهدوا كيف استبيحت الأكثرية السنية وهجرت بشكل لا يمكن اعتباره عفويا من العديد من المناطق السورية.
“المقامات الشيعية”… “لواء الفاطميين”.. “حزب الله”.. “لبيك يا زينب”.. “لواء أبوالفضل العباس”.. “الجيش الشيعي الحر”.. وغيرها العشرات من الفصائل والعناوين.
هل من عاقل يعتقد أنّ مثل هذه الأدوات التي تقاتل في سوريا وفي بحر الأكثرية السنية يمكن أن تكون في سياق مشروع تحرير فلسطين أو قتال إسرائيل؟
قد يقول قائل إنّ الأيديولوجيا الدينية في إيران تفترض أسماء لرموز دينية تستخدم في الحرب، لكن لماذا لم نسمع بلواء عمر بن الخطاب إيرانيا، أو لواء أبي بكر الصديق، بل لماذا لم نسمع بلواء الرسول محمد بن عبدالله؟ ببساطة شديدة لأنّ العدو في الداخل الإسلامي لا في واشنطن ولا في موسكو ولا في إسرائيل. والهدف هو الأممية الشيعية التي تريدها طهران عبر أيديولوجية ولاية الفقيه وتفيد موسكو وواشنطن وتل أبيب.
أمّا مقولة الوحدة الإسلامية ومقاومة إسرائيل، فهي لم تكن أكثر من معبر إيراني، لتدمير ما تبقى من النظام الإقليمي العربي ومكوناته.
لهذا أبومحمد الجولاني هو الأقوى في سوريا اليوم، لأنّ أدوات الخصم والعدو تجعله أقوى، اللغة المذهبية التي يرمز إليها الحضور الإيراني في سوريا ويوغل في استخدامها دفاعاً عن نظام مستبد وحاكم دكتاتوري قتل من شعبه عددا لم يبلغه من قبله أحد على امتداد الدول العربية. كل ذلك كفيل بأن تعلو أسهم الجولاني وخطابه، وفي نفس الوقت ستعمد إيران إلى المزيد من استخدام مقولة “الخطر على الأقليات” لتعزيز نفوذها أكثر بحماية روسية وأميركية وبرضا إسرائيلي أساسه ضمان حماية حدودها.
وهو ما يتحقق لها كلما زاد نفوذ إيران وزاد حضور خطاب الجولاني وجبهة فتح الشام التي تحامي عن السنة، هم الذين قال عنهم الجولاني في مقابلته الآنفة، إنّهم في “خطر وجودي في الشام اليوم”.
عندما استحال أن يقوم الشعب السوري بتطوير نظامه بسبب البطش والاستبداد والتكالب الدولي والإقليمي على ثورته، بدل أن تتصدى لمشهد التغيير هذا قوى سورية معتدلة، تصدّرته قوى إسلامية متطرفة، لأنّ الاعتدال قُضي عليه فأصبحت الساحة مصادرة لقوى التطرف والتكفير بنموذجيها السني والشيعي، والتي من شأنها ألاّ تعترف بالآخر وبحق الاختلاف. وليست المشاهد الدموية التي ترافق نشوء هذه الظاهرة في سوريا إلاّ تعبيرا عن تفاقم الإحساس بالتهميش والظلم المتوالي من دون توقف.
وهذه الظاهرة صار خطرها شاملا، لكن خطرها أكبر على رؤية مشروع سوريا الموحدة والديمقراطية الذي عبرت عنه وتعبّر عنه نخبة قليلة مع الأسف، تأمل في إمكانية تجديد الاجتماع السياسي على أساس المواطنة والهوية العربية. وهي مهمّشة أكثر من غيرها من قبل قوى التكفير والتعصّب المذهبي، ومن قبل القوى الدولية أيضا.
صحيفة العرب