باقٍ من الزمن تسعة أيام على الجلسة الرئاسية في 28 أيلول، والمشهد السياسي يتجاذبه سيَلان كلاميّ يُغرق البلد في روايات وشائعات متناقضة، أصابته بحالٍ مِن الاهتزاز الذِهني أقرب إلى الارتجاج في المخّ السياسي!
ويبدو أنّ حبل الروايات طويل:
- رواية أولى، ميشال عون رئيساً في 28 أيلول، سعد الحريري وافقَ عليه، ونواب تيار المستقبل سيكونون أوّلَ النازلين إلى مجلس النواب لانتخابه.
ثمّ ما يلبَث أن يأتي أحدٌ ما ويضرب هذه الرواية في صميمها «هذه مجرّد تمنّيات»... وسرعان ما يتراجع الكلام إلى مربّع التشاؤم العوني الأوّل.
- رواية ثانية، جبران باسيل التقى الحريري في باريس، ثمّ ما يلبث أن يأتي النفي البرتقالي: «لم يحصل اللقاء أبداً»، يَليه النفيُ الأزرق، ثمّ تأتي «معلومة» مِن «مكانٍ ما» لمرجع سياسي يَصفها بالمؤكّدة «أنا أراهن أنّ اللقاء قد حصَل، وبَحث الطرفان في الملفّ الرئاسي وفي ترشيح عون، لكنّهما لم يتّفقا». فمن يقول الحقيقة، الذين ينفون أو الذين يؤكّدون؟
- رواية ثالثة، سليمان فرنجية بَلغته أجواء بأنّ الحريري يقترب من التخلّي عن ترشيحه، وعلاقته بالحريري صارت على خطّ «التوتّر العالي» إنّما غير المعلن. وعطفاً على هذه الأجواء ينسب العونيّون كلاماً للنائب السابق غطاس خوري حرفيتُه عراقيل ترشيح النائب فرنجية واضحة وقد تَناقشنا معه بشأنها». لكن سرعان ما يبلغ خوري كلاماً مغايراً للوزير روني عريجي، سبق أن نقله إلى فرنجية «بأنّ كلّ كلام عن احتمال تخلّي الحريري عن ترشيحه ليس صحيحاً أبداً، بل هو متمسّك بهذا الترشيح إلى النهاية». وبحسب هذه الرواية، فإنه من باب التأكّد أكثر من صحّة هذا الكلام، هناك من طلب أن ينظر في عينَي خوري وهو يورد هذا الكلام.
- رواية رابعة، الحريري حسَم خيارَه، لا عون ولا فرنجية، وصار أقرب إلى البحث عن مرشّح ثالث، وأنّه سيَحسم هذا الأمر نهائياً عندما يعود إلى بيروت، وتبعاً لهذه الرواية دخلت بعض المستويات السياسية في عملية بحثٍ عمّن قد يكون هذا المرشّح الثالث.
- رواية خامسة، تيار المستقبل منقسم على ذاته بين فريق يؤيّد انتخاب عون يقوده نهاد المشنوق، وفريق رافض يقوده فؤاد السنيورة. وأمّا إعلامُه فيَجزم بالثبات على ترشيح فرنجية.
- رواية سادسة، أنّ استفسارات سياسية وديبلوماسية عديدة طرحت باللغات الفرنسية والإنكليزية على مراجع ومستويات سياسية عن جلسة 28 أيلول وما إذا كانت حاسمة انتخابياً، وصحّة ما يُتداول عن انتخاب عون. وهناك من ينسب جواباً لرئيس الحكومة تمّام سلام «ومن قال إنّ الجلسة قد تُعقد». وهناك من شرَح لبعض المستفسرين بعضَ الوقائع التي تجعل من الجلسة 45 لانتخاب رئيس الجمهورية تلحق بسابقاتها الـ 44، أي التأجيل إلى موعد جديد.
ومِن تلك الوقائع:
- أوّلاً، أيّ مرشّح لرئاسة الجمهورية، يفترض أن يفتح إيجابياً سرّاً أو علناً، على القوى السياسية لنَيل تأييدها له، ولكن ما هو حاصل أنّ حركة هؤلاء المرشّحين معدومة في هذا الاتّجاه، فضلاً عن أنّ النبرة التصعيدية والاتهامية ترتفع من الرابية تحديداً، في اتّجاه قوى سياسية فاعلة ووازنة في مجلس النواب. فكيف للقوى المصعَّد عليها أن تنتخب من يُصعِّد عليها؟
- ثانياً، لبنان بلد اللاأسرار، ودرَجت العادة في لبنان على أنّ اسم رئيس الجمهورية الجدّي، يُعرف مسبقاً، وقبل أشهر من انتخابه، وعلى هذا الأساس يجري تحضير البلد نفسياً، وتفصيل التحضيرات السياسية والتقنية على مقاس انتخابه. وحتى الآن ما يزال اسم الرئيس المحظوظ ضائعاً في متاهات الداخل والخارج.
- ثالثاً، لا توجد مؤشّرات عن إمكان الذهاب إلى توافق داخلي على اسم الرئيس، ولا على ما بعد انتخابه، والمغزى الحقيقي يَكمن في الكلام الأخير لرئيس مجلس النواب نبيه بري «طالما أن لا اتّفاق على ما بعد الرئاسة فلا رئاسة... والمهم هو قانون الانتخاب». وهذا الاتفاق لم يتمّ بعد، وقد لا يتمّ في المدى المنظور.
- رابعاً، درَجت العادة في الجلسات الرئاسية أن تُحاط بتحضيرات استثنائية، بحيث يُدعى إليها شخصيات وفاعليات والسلك الديبلوماسي العربي والدولي كلّه. الرئيس نبيه بري المعني يقول «ما معي خبر أن تكون الجلسة حاسمة انتخابياً»، فضلاً عن أنّ أياً مِن تلك التحضيرات الاستثنائية التمهيدية قد تمّت أو اتّخِذت أو ستُتخَذ عشية جلسة 28 أيلول.
- خامساً، درجت العادة في الجلسات الرئاسية أن تُحاط أوّلاً بتوافق سياسي داخلي مسبَق عليها، وهذا لم يحصل، وتبعاً لعدم التوافق المسبق، هل سيَحضر نواب عون جلسة 28 أيلول، وهل انتفت الخشية العونية من أنّ حضورهم جلسة بلا توافق، قد يؤدّي إلى انتخاب فرنجية؟
- سادساً، أعلن بري أنّه سيدعو إلى جلسة تشريعية في النصف الثاني من تشرين الأوّل المقبل وفي ظلّ حكومة تمام سلام طبعاً، وهذا الإعلان يَستبطن تجاوزاً لجلسة 28، إذ إنّه افترَض أنّ الوضع باقٍ على ما هو عليه دون أيّ تغيير رئاسي أو حكومي، كما أنّه في الإعلان يتحدّى المنحى التعطيلي لمجلس النواب بتأكيده على عقدِ جلسة بمن حضَر «المهم فقط توفّر النصاب القانوني أي 65 نائباً، لدرس وإقرار مجموعة من البنود الملِحّة والضرورية.
وما زال السيَلان مستمرّاً... على باب جلسة 28 أيلول، والعين على ما بعدها، والأسئلة تتوالى عمّا سيفعله عون؟ في وجه من سيُصعّد؟ إذا كان ضدّ الداخل ففي وجه مَن؟ وهل هناك في الداخل من يستطيع أن يقدّم له ما يريده ؟ وإذا كان في وجه الخارج فأيّ خارج هو المقصود؟ وإذا كان غيرَ قادر على كسبِ تأييد الداخل كلّه، فهل بالتصعيد قادر على كسبِ تأييد الخارج؟ وهل الخارج في وضعٍ قادر فيه على أن يَميل بنظره نحو لبنان، أو بالأحرى أن يُضيّع وقتَه على لبنان؟ وإنْ نزلَ إلى الشارع فهل يضمن أن يحقّق له الشارع ما يريد، وإنْ فشلَ التصعيد في تحقيق مراده فهل سيبقى في الشارع، وكم سيبقى في الشارع، وهل يستطيع أن يبقى في الشارع؟
واضحٌ أنّ جلسة 28 أيلول، محطة يتمنّى عون أن تكون حاسمة رئاسياً لمصلحته، ولأنّ الرياح السياسية ما زالت خريفية رئاسياً بالنسبة إليه، فباتت تلك الجلسة تشكّل بالنسبة إليه محطةً لإشعال شرارة التصعيد.
خصومُه يَعتبرون أنّه يخوض معركة خاسرة سلفاً. ومؤيّدوه يعتبرون أنّها معركة الحق مقابل الباطل. وأمّا المتفهمون لحركته التصعيدية فيبرّرون «يبدو أنّ تصعيد عون مرتكز على قاعدة «أنا الغريق فما خوفي من البَللِ»
في رأي هؤلاء «لم يعُد لدى عون ما يَخسره، هو يَعتبر نفسَه المرشّح الأوّل والأقوى للفريق الأقوى، يحاول إحياءَ فرصته الرئاسية التي قد لا تتكرّر. وبالتالي قطعَ هذه الفرصة نهائياً على الآخرين، يبحث عن حبّة الرمل الرئاسية في صحراء سياسية معادية، فلا يجدها وقد لا يجدها، لذلك قرَّر أن يخوض معركةً مصيرية يذهب فيها إلى نقطة اللاعودة في لعبة صولد لخلطِ الأوراق كلّها وقلبِ الطاولة على الجميع. ولكنْ هل سيتمكّن مِن ذلك؟ .. الجواب في الآتي من الأيام.
نبيل هيثم