هل تبدل مضمون المصطلح، "المال الحرام" ، مع مرور الوقت؟ هو إسلامي المصدر، لكنه لم يرد بهذه الصيغة لا في القرآن ولا في الأحاديث الشريفة. مع ذلك، يستحضره السلفيون في لغتهم المعاصرة. ثم إٍنهم يجعلونه جزءاً من عدة الصراع السياسي الإيديولوجي وجزءاً من منظومة نظرية مليئة بالالتباسات تهتم بالشؤون المالية وإدارتها.
أحلّ لكم الطيبات وحرم عليكم الخبائث. على هذا النص قامت منظومة كاملة من التحليل والتحريم كان لها معاييرها في الجاهلية وما بعدها في مرحلة الحضارات الدينية الاقطاعية، أو الخراجية بتعبير البعض(نسبة إلى ضريبة الخراج المفروضة على الأراضي) . فهل تصلح تلك المعايير في الحضارة الرأسمالية التي لم تعد الأرض هي المصدر الأساس لإنتاج الثروة؟
مستخدمو هذا المصطلح يعتمدون على الاجتهادات والتأويلات والفتاوى، وهي كلها ذات مضامين أخلاقية، في حين لم يعد المعيار الأخلاقي صالحاً كوحدة قياس في عصر الأرقام والحسابات الدقيقة.
كان الخليفة يمنح الشاعر المدّاح آلافاً من الدنانير أو عشرات الآلاف من الدراهم، وكان يعد ذلك من المكرمات، وينفق أضعاف أضعافها على الجواري ويحسبه من الحقوق المشروعة للحاكم. قيل إن المتنبي لم يكن يرضى هدية من الخليفة بأقل من ولاية يحكمها. وأنور السادات كان يهدي زائريه قطعاً أثرية من المتحف الوطني أو من المتحف الفني الذي سطا عليه وجعله مقر إقامته العائلية، ووعد "بإهداء" بعض من مياه النيل... إلى أن صارت المعايير المحسوبة بدقة تسأل الحاكم ، من أين لك هذا؟ ويكفي تلميح إعلامي بسيط لإحالة مسؤول حكومي على المحاكمة أو دفعه إلى الاستقالة، إن لم يكن إلى الانتحار.
هذا في البلاد التي تحكمها القوانين والدساتير حيث يتولى القضاء الفصل بين الحلال والحرام، بين الشرعي وغير الشرعي، المشروع وغير المشروع، وتستبدل المقاييس المطاطة بأخرى شديدة الوضوح والدقة، وتنتزع المرجعية من أيدي صاحب الملك والسلطان، لتوضع بين يدي حراس العدالة من القضاة.
الرشوة ، الاختلاس ، سرقة المال العام، هدر المال العام ، التهرب الضريبي ، هي بعض المصطلحات الحديثة التي تحيل إلى الدلالة ذاتها التي ينطوي عليها مصطلح المال الحرام. السلفي يهرب إلى اللغة والتأويلات والفتاوى ليجعل الحرام حلالاً، وليبرر الجباية غير المشروعة والانفاق بغير حسيب ولا رقيب من مال الأوقاف ، بينما يهرب الحاكم الحديث إلى التحايل على القانون فيتملّص من دفع الضريبة ( النائب في المجلس النيابي لا يدفع ضريبة على سياراته الخاصة ولا على مؤسساته "الخيرية ذات النفع العام" ولا على مؤسساته الطائفية ). أما بريجينيف الحاكم باسم الشيوعية، وعلى ذمة الرواة، فقد أوكل إلى ابنه تصدير الكافيار في علب السردين.
ماذا نسمي في أيامنا مصادرة الدولة والمؤسسات والشوارع والساحات وأعمدة الكهرباء ومكبرات الصوت ووسائل الاعلام ؟ لقد ابتكروا مصطلحاً أقل إثارة وأكثر تستراً فإدرجت كل هذه الآفات في خانة الفساد. لكن الفاسدين يتبادلون التهم ويتراشقون بها ويتحاصصون المال العام إضافة إلى الدهماء التي تحميهم. قال أحدهم، لولا الطائفية لسحبونا من بيوتنا. والصحيح أنها ليست الطائفية بل التشبيح على القانون بقوة الميليشيات المسلحة.
المقياس الأول للمال الحلال في العصر الحديث هو العمل. العمل سلعة وثمن السلعة يساوي الوقت الضروي لإنتاجها. وبالتالي من يحصل على المال من غير عمل فهو سارق وماله حرام. طبقت حركة الاصلاح الديني البروتستانتي هذا المقياس أول مرة على رجال الدين وفرضت على كل منهم أن يأكل من عرق جبينه، أي أن تكون له مهنة ما، وأن يكون نشاطه في الحقل الديني بمثابة تطوع خارج دوام العمل. ماذا لو طبق على رجال الدين في بلادنا؟ ماذا لو طبق على النواب في البرلمان؟
المقياس الثاني في الحضارة الرأسمالية هو الاستثمار. الربح عن طريق الاستثمار هو مال حلال، تحصيله مستند إلى القانون، ولن تصح تسمية ماركس عن النهب الرأسمالي إلا عندما يصير للاشتراكية قانونها، ويتم توزيع القيمة الزائدة "لكل حسب حاجته"، أما من يكسب من غير أن يستثمر جهده أو ماله فهو سارق. ماذا لو طبقنا هذا المعيار على أغنياء جدد لم تنضح نقطة عرق واحدة على جبين أي منهم ولم يحسبوا في عداد المستثمرين؟ وماذا لو طبقناه على ثروات هذه الأمة التي لا تحتاج حيازة المال فيها إلى نقطة عرق ولا يحتاج إنفاقه إلى أية رقابة شعبية؟ مكرمات جاهلية يستثمرون معظمها في الأمن والحروب، وبعضها في رشاوى الهبات، أو للتنافس على رعاية التطرف وتغذية الأصوليات وأنظمة الاستبداد، ويبددونها لتبديد المخاوف على العروش، كأنها نهر بردى، في شعر محمد الماغوط، تتبدد مياهه على " الغرغرة وغسل الموتى".