كأنها رسالة من مجهول، مع أنها تحمل تواقيع محددة لأسماء معروفة جيداً ومحترمة جداً، وتتضمن شكوى صادقة ومطلباً محقاً. وصلت بشكل مفاجىء، لكنها ،ككل الرسائل غير المتوقعة، أحيت الحنين الى ذكريات مضت عن ثورة ما زالت تصارع من أجل ان تنال شرعيتها. كأنها رسالة الى مجهول، مع انها توجهت بالإسم الى زعماء دول ومؤسسات وسياسات ، بحيث لا يمكن لأحد ان يخطىء مغزاها. عيبها الوحيد أنها وصلت متأخرة جداً، ما يمكن ان يفقدها الكثير من قيمتها ، ويحيلها الى نص طوباوي لا يمكن الرجوع اليه والبناء عليه الا في حلقات الذكر الثقافي-السياسي، التي فات أوانها، او التي لم تعد تستقيم مع واقع الحال السوري .
من خارج أي سياق، جاءت رسالة الكتاب والمثقفين والصحافيين السوريين ال150 ، لتطلق صرخة ثقافية – سياسية، في وجه النظام العالمي الحاكم، والاهم من ذلك، لتعلن ان الثقافة والسياسة في سوريا لم تندثر ، ولم تختفِ وراء ذلك الصراع المدمر بين اقصى الاستبداد الذي يمثله نظام الاسد من جهة وبين اقصى التطرف الاسلامي الذي يتقدم ويتمدد بين مناهضيه من جهة أخرى.
البيان يثبت بما لايدع مجالاً للشك أنه ما زال في سوريا طرف ثالث، وبديل مقبول، يمثل شريحة واسعة من السوريين المغيبين. طبعا هو الان موزع على بلدان الشتات في مختلف انحاء العالم. والارجح انه ليس بين الموقعين، مقيم واحد على الاراضي السورية. وهو ما سهل في الغالب توقيع البيان وصدوره من دون خوف، وما جعله نصاً عابراً للحدود وللقارات، لا يخاطب السوريين بقدر ما يساجل الاميركيين والروس، ويوجه اليهم إتهامات مكررة ومعادة منذ سنوات الثورة الاولى، ويعرضها بوصفها إكتشافاً جديداً للسياسة الدولية تجاه سوريا، او فتحاً استثنائياً لقلاعها الروسية والاميركية المتواطئة مع نظام الاسد بشكل او بآخر.
في النص عيوب أخرى كثيرة، مصدرها نقص المعلومات السياسية وحتى الثقافية العامة. المطالبة بتغيير"النظام العالمي" لانه معادٍ للديموقراطية في سوريا وفي كل مكان، هي قفزة غير موفقة ومغامرة غير مناسبة، ولا يصح ان تصدر إلا عن قوة او قوى عالمية كبرى. أما رفض الاتفاق الاميركي الروسي الاخير، بما فيه من ثغرات وانحيازات واضحة، فهو الموقف الاهم والأصدق، لا سيما اذا كان يضمر الرغبة في تمديد الصراع الطاحن بين النظام والاسلاميين، باعتباره خلاصاً من الفريقين.. وهو ما لا يشي به النص نفسه. لا بأس. هو نص تمهيدي، او هكذا يفترض التعامل معه. خطوة أولى، متأخرة بعض الشيء، على مسار طويل. يفترض انه بدأ قبل ربيع العام 2011: أن يجتمع هذا الحشد المرموق من كتاب سوريا ومثقفيها وصحافييها على هذا البيان ، هو حدث مهم فعلا. وأن يتحول البيان في مرحلة لاحقة الى عمل تأسيسي لكيان ثقافي-سياسي، فتلك أمنية بعيدة المدى، كانت وما زالت من لزوميات الثورة ومن شروط انتصارها.
نجح البيان في تصحيح صورة سوريا وثورتها وإزالة الشوائب التي علقت بها وكادت تختزلها بأرض الميعاد الاسلامي، او البعثي، أو كادت تختصرها بالحرب العالمية العشوائية على الارهاب، التي برهن النظام أنه أشد براعة في استثمارها.. والتي لم تجنٍ منها المعارضة سوى الهلاك.
لا بد من نص مقبل، لا بد من نصوص لاحقة، تنزل من مستوى الاستنكار للنظام العالمي الجائر بحق سوريا، والادانة للغزو الروسي والتواطوء الاميركي، وتؤسس لحراك سوري موازٍ يخاطب عموم السوريين ويجادل في الثورة وخصومها الكثر ، ويشكل قوة ضغط حقيقية على مؤسساتها ، ويستنفر كل كاتب او مثقف او صحافي صديق في العالم كله ، من أجل ان يوقع على عريضة، او أن يشارك في تظاهرة او مسيرة ، أن ينضم الى اعتصام صامت في المنافي السورية كافة. البيان جميل، مؤثر، لا بمحتواه، بل بصفته عملاً جمعياً لتيار سوري عريض مهدد بالزوال.