أثار مقترح تقدّمت به جهات سياسية عراقية شريكة في الحكم بسنّ قانون لتحصين ميليشيات الحشد الشعبي المشاركة في الحرب ضدّ تنظيم داعش من المساءلة القانونية على الجرائم التي اقترفتها وقد تقترفها خلال تلك الحرب، موجة من الاستياء، كون مثل ذلك القانون سيمثل غطاء لممارسة الجريمة على أوسع نطاق وحتى المنظّم منها.
وإذ يمثّل مثل ذلك المقترح خطوة استباقية لحماية الميليشيات من محاسبة يفترض –نظريا- أن تكون حتمية نظرا لكثرة ما اقترفته تلك التشكيلات الطائفية من جرائم متنوعة ومتعدّدة منذ انخراطها في محاربة داعش بعد أن تم جمعها في هيكل كبير عرف بالحشد الشعبي، فإنّ تقديم المقترح في هذه المرحلة بالذات التي تقترب فيها الحرب على داعش من نهايتها، يأتي ضمن عملية التفكير التي انخرطت فيها شخصيات وأحزاب شيعية مستفيدة من الميليشيات بـ”مستقبل” ميليشياتهم التي مازالت لها أدوار كبيرة ستلعبها غير دور الحرب على التنظيم المتشدّد، وفي مقدّمتها السيطرة على السلطة في البلاد وضمان بقائها في أيدي الأحزاب الشيعية، بعد أن ظهرت أصوات كثيرة منادية بالدولة المدنية بعد إفلاس تجربة الحكم القائمة حاليا بشكل كامل وعلى مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية.
وينتظر أن تبدأ خلال الأيام القادمة إجراءات إقرار قانون اقترحه نواب عن كتلة المواطن البرلمانية والمنضوية تحت عباءة التحالف الوطني في البرلمان العراقي، ويهدف إلى توفير الحماية والحصانة للحشد الشعبي من أي مساءلة قانونية قد يتعرض لها.
وكانت النائبة عن كتلة المواطن حمدية الحسيني قد أعلنت في بيان صحافي أصدرته في وقت سابق “رفع مقترح قانون إلى البرلمان وقّع عليه أكثر من 70 نائبا لوضع الإطار القانوني لحماية حقوق الحشد الشعبي”.
وبحسب عراقيين معترضين على القانون فإنّ من شأن المصادقة عليه فتح الأبواب لارتكاب الحشد المزيد من الجرائم والانتهاكات على خلفية طائفية دون خشية من عقاب أو سلطة لأن الميليشيات ستكون محمية ومصانة بهذا القانون الذي يضفي “مشروعية” على ما يُرتكب من انتهاكات وتجاوزات تصدر عن أفراد وجماعات ينتمون إلى فصائل الحشد.
ويتخوّف قسم هام من العراقيين مما يسمونه تغوّل الميليشيات الشيعية بفعل انتمائها إلى الحشد الشعبي، ويرون في ذلك خطرا كبيرا على مستقبل البلد حيث سيكون من المستحيل نزع سلاح الحشد بعد نهاية الحرب على تنظيم داعش، وقد يتم تحويل الآلاف من المسلّحين للقيام بمهمات أخرى من ضمنها حماية نفوذ قادتهم، وحتى تصفية الحسابات السياسية بين الأطراف العراقية المتنازعة على السلطة والمتنافسة على تحصيل المكاسب السياسية والمادية.
الميليشيات ضمانة لإبقاء السلطة في أيدي الأحزاب الشيعية بعد أن ظهرت أصوات كثيرة منادية بالدولة المدنية
وتقول مصادر عراقية إن عدد الفصائل الشيعية المنضوية ضمن الحشد الشعبي وصل إلى 81 ميليشيا، وكان أحدثها فصيل “مسلم بن عقيل” الذي تم الإعلان عن تشكيله في منتصف شهر أغسطس الماضي وكانت المفاجأة إسناد قيادته لمحامية شابة اسمها إيمان السويعدي ستكون أول امرأة عراقية تقود ميليشيا مسلحة.
ويصنّف متابعون للشأن العراقي عملية تحصين ميليشيات الحشد الشعبي بقانون ضمن مساعي التحالف الوطني الحاكم لقطع الطريق أمام أي جهة تحاول أن تقيم دعوى قضائية أو تفتح ملف الجرائم الكبيرة التي ارتكبتها -أو سترتكبها- عناصر تابعة للحشد والتي سبق لها الضلوع في جرائم ذات طبيعة طائفية بحق مدنيين تحت يافطة محاربة الإرهاب في المحافظات العراقية ذات الغالبية السنية مثل ديالى وصلاح الدين والأنبار خلال الأعوام القليلة الماضية أثناء العمليات العسكرية التي شهدتها تلك المناطق بهدف استعادتها من تنظيم داعش.
واستهدف أحدث تلك الجرائم وأكثرها دموية أبناء عشيرة المحامدة بناحية الصقلاوية شمال مدينة الفلوجة في مطلع شهر يونيو الماضي خلال معارك استعادة مناطق الأنبار، حين أقدمت عناصر من الحشد على إعدام أكثر من 50 مدنيا كانوا يحملون رايات بيضاء وهم يتجهون إلى ممرات “آمنة” سبق أن حددتها السلطات الحكومية والجيش العراقي لخروج المدنيين المحاصرين في المدينة مع عوائلهم نتيجة للقصف واشتداد المعارك الدائرة بين الجيش العراقي وتنظيم داعش، إلاّ أنّ هؤلاء النازحين الباحثين عن ملاذ آمن تم اعتقالهم والتنكيل بهم بطرق وحشية بعد أن جرى عزل الرجال عن النساء والأطفال. وبالإضافة إلى أولئك الذين أعدموا بدم بارد تم اختطاف أكثر من 600 شخص اقتيدوا مكبلين إلى جهة مجهولة ولم يعرف مصيرهم حتى الآن رغم المطالبات الكثيرة والمناشدات المحلية وحتى الدولية بالكشف عن مصير المختطفين وإطلاق سراح الأحياء منهم.
كذلك أشارت مصادر محلية من داخل محافظة الأنبار إلى اختفاء أكثر من 3000 مدني من سكان المحافظة بعد أن تم اختطافهم في نهاية العام 2015 عند معبر الرزازة على بعد 50 كيلومترا إلى الجنوب من مدينة الفلوجة وكانوا قد وصلوا إليه بعد أن نجحوا في الخروج من مناطق سيطرة داعش. وكان المعبر المذكور خاضعا آنذاك لميليشيا فرقة العباس.
ويرتبط صعود الميليشيات في العراق بشكل وثيق بتراجع هيبة الدولة. وحتى دون تشريع قانون يحصّن تلك الفصائل الطائفية، فإن تلك الحصانة متحقّقة فعلا على أرض الواقع، إذ أنّ الميليشيات ذاتها تشارك بطريقتها في “فرض القانون” عن طريق نشر السيطرات على الطرق وتسيير الدوريات في المدن بما في ذلك العاصمة بغداد بحدّ ذاتها.
وبرزت ظاهرة الميليشيات في العراق في مرحلة ما بعد 2003 لكنها دخلت منعطفا جديدا من التغوّل بمشاركتها في الحرب ضدّ تنظيم داعش ضمن الحشد الشعبي الذي تأسس استنادا إلى فتوى من مرجعية النجف ما أضفى هالة من القدسية على هذا الجيش الموازي حتى أن دوائر شيعية عراقية سياسية وإعلامية تطلق عليه تسمية “الحشد المقدّس”.
وقد أتيح للميليشيات الشيعية في نطاق الحرب الجارية قدر كبير من التسليح والتمويل من داخل العراق وأيضا من إيران، فيما اكتسب قادتها سلطات تفوق سلطة الحكومة بمن في ذلك رئيس الوزراء.
وبدأت الميليشيات تدخل معترك الصراع السياسي في العراق من الباب الكبير، وكان للبعض منها دور مفصلي في حماية أشخاص مطلوبين للمحاسبة في ملفات فساد وجرائم كبيرة.
ويرى المعترضون على إقرار قانون تحصين ميليشيات الحشد الشعبي من المساءلة القانونية، أنّ ذلك سيجهز على ما بقي من سمعة الدولة العراقية وهيبتها، حيث سيشرّع الجريمة ويكرّس العنف المستشري أصلا في البلد حين يجد الناس أن القانون بات في صفّ القتلة والمجرمين، وأنه لا مناص من حمل السلاح لحماية أرواحهم وممتلكاتهم.
العرب