9 أشهر مرت على دخول اتفاق إيران النووي مع السداسية الدولية حيز التنفيذ العملي، في يناير/كانون الثاني 2016، ولا تزال البلاد تنتظر رفع كافة العقوبات الاقتصادية عنها بموجبه. وهو ما أثار قلق أوساط واسعة في الداخل وخلق جدلاً، بدأت وتيرته تزداد مع صدور تصريحات عن مسؤولين في حكومة الرئيس حسن روحاني، حول إمكانية انضمام إيران إلى "مجموعة العمل المالي" (Financial Action Task Force) بشكل رسمي وقبول كافة مواثيقها، ما قد يسهل تطبيق بند إلغاء العقوبات المالية عن طهران. هذه المجموعة الدولية المعروفة بمختصر "فاتف" (FATF)، تأسست في باريس عام 1989، وهي الجهة المعنية دولياً بالوقوف بوجه عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب. وكانت قد أزالت إيران من القائمة السوداء في آخر اجتماع لها استضافته كوريا الجنوبية، في خطوة قرأها البعض بالداخل بالإيجابية. ويعمل هؤلاء على استغلالها من باب أنها قد تضمن إلغاء العقوبات بكافة أشكالها، لا سيما تلك المالية التي تعطل الآمال والأحلام الإيرانية الكبرى. 
وروج البعض في الداخل خلال الفترة الماضية إلى ضرورة اتخاذ خطوة الانضمام للمجموعة والموافقة على مواثيقها في وقت لا تزال فيه بعض المصارف الدولية الكبرى ترفض التعامل مع طهران، بالإضافة لاستمرار وجود تعقيدات تعرقل التحويلات المالية من وإلى البلاد. فضلاً عن ذلك، يساهم الانضمام لهذه المجموعة بتسهيل جذب الاستثمارات الأجنبية بشكل عملي، لا الاكتفاء بالتفاوض مع الزبائن وتوقيع عقود لم تدخل حتى اللحظة في مرحلة التطبيق. وكل هذا هو ما طمحت إيران له، في الأساس، وسعت إلى تحقيقه بالاستفادة من الاتفاق النووي. لكنْ هناك طرفٌ آخر في الداخل يعترض على هذه المعادلة. فالأمر بات يقلق كثيرين، لا سيما أولئك المحسوبين على المحافظين. ويرى هؤلاء أن الموافقة على خيار الانضمام إلى تلك المجموعة يعني فتح مجال لرقابة أكبر على البلاد وربما اختراقها أمنياً. هكذا دخلت إيران في دوامة سجال سياسي داخلي، يتمسك كل طرف فيه بمبرراته من أجل حسم القرار الرسمي لمصلحة وجهة نظره.
 
في هذا الصدد، قال مساعد وزير الخارجية الإيرانية، المفاوض النووي، مجيد تخت روانجي، في وقت سابق إن المصادقة على الانضمام لمجموعة "فاتف" والموافقة على قراراتها، هي من صلاحيات المجلس الأعلى للأمن القومي الذي يدرس في الوقت الراهن المسألة، مؤكداً أن الخارجية ستطبق أي قرار سيصدر عنه. في نفس الاتجاه، ذكّر المتحدث باسم الحكومة، محمد باقر نوبخت، المنتقدين، خلال مؤتمر صحافي عقده يوم الثلاثاء الماضي، بأن المجلس الأعلى للأمن القومي هو من يجب أن يبت بالأمر، منتقداً طريقة التعامل مع الملف عبر كل المنابر والوسائل الإعلامية وحتى في منابر المساجد، وهو ما يعكس بوضوح حالة الخوف لدى كثيرين، والتي لا تقتصر على السياسيين المنتمين إلى معسكر المحافظين.
 
وفي إطار الدفاع عن خيار انضمام طهران إلى "مجموعة العمل المالي"، قدم وزير الاقتصاد الإيراني، علي طيب نيا، خلال لقاء مع التلفزيون المحلي، توضيحات مفصلة محاولاً تبديد قلق المتخوفين من خيار كهذا في الداخل، وحتى المتخوفين خارج البلاد وهم الرافضون بدورهم لتطبيق قرار إلغاء العقوبات المالية والمصرفية عن بلاده بموجب الاتفاق. وأشار إلى أن طهران ستعمل على إزالة كل مصادر القلق الذي ينتاب الأطراف الرئيسة في "مجموعة العمل المالي"، والمتعلق بغسيل الأموال، وبذات الوقت ذكر أن طهران لن ترضى بتعريف خاص للإرهاب والذي تحدده الأطراف الأخرى. كذلك، حاول طمأنة الداخل قائلاً إنه لن يكون هناك أي تبادل للمعلومات على مستوى دولي وإنما تتلخص مهمة هذه المجموعة بسن قوانين للوقوف بوجه غسيل الأموال بالدرجة الأولى.
 
وشرح طيب نيا آليات العمل في "فاتف" قائلاً إن الدول مقسمة في هذه المجموعة على أربعة مستويات، الأول من يطبق الإجراءات بشكلها الكامل، والثاني يضم من يطبقونها جزئياً، والمستوى الثالث لمن يختارون بنوداً دون أخرى، والمستوى الأخير يخص دولاً لا تتعاون بالأساس في مجال غسيل الأموال، كانت إيران مصنفة ضمن هذه الفئة، إضافة إلى كوريا الشمالية. وأكد أن رفع اسم بلاده عن القائمة السوداء أمر جيد، مشيراً إلى أنه توجد بعض البنود التي على إيران أن تتفق عليها مع "مجموعة العمل المالي"، وهو الأمر الذي سيصنف آليات تعامل طهران معها مستقبلاً.
 
بدوره، دعا رئيس البنك المركزي الإيراني، ولي الله سيف، إلى عدم القلق من خيار الانضمام إلى تلك المجموعة، قائلاً إنها معنية بالأساس بتبادل الخبرات لمكافحة غسيل الأموال أو دعم الإرهاب، ومؤكداً أنه لا يتسنى لأي بلد أن يصل لمعلومات هامة ومصيرية وأمنية تخص أي بلد آخر، كما ذكر.
 
كل هذا الكلام لم يكن كافياً بالنسبة لكثيرين. ولعل أبرزهم مستشار المرشد الأعلى، رئيس مركز التحقيقات الاستراتيجية التابع لمجمع تشخيص مصلحة النظام، علي أكبر ولايتي، الذي رأى أن "مجموعة العمل المالي" لا تعود بالنفع على البلاد أصلاً، معتبراً أن المؤسسات المالية الدولية تعمل على حرمان طهران من كل الفرص الاقتصادية ومن الإمكانات المالية. ودعا في تصريحات صدرت أخيراً، إلى عدم اتباع قوانين "فاتف" والحفاظ على الاقتصاد الذي أصبح يسمى اصطلاحاً في البلاد بالاقتصاد المقاوم، معتبراً أن "المنتصر الحقيقي في النهاية هو من يدعم المقاومة".
 
وللحرس الثوري كذلك تخوفاته، وهو الذي يشرف بشكل رئيس على دعم الملفات السياسية والأمنية في الشرق الأوسط. وتوجد أسماء عديدة من المنتمين إلى هذا "الحرس" في قوائم العقوبات الأميركية والأوروبية ممن اتهموا سابقاً بالالتفاف على العقوبات وبتبييض الأموال وبدعم "الإرهاب"، وفق تعريفه الغربي، كما يقول هؤلاء.
 
برلمانياً، علت أصوات النواب الذين بدأوا بالتحضير لمشروع من أجل دراسته قريباً والتصويت عليه. وهو مشروع، إذا تم إقراره، سيلزم حكومة روحاني بأن تأخذ رأي البرلمان أولاً قبل الانضمام إلى "مجموعة العمل المالي"، بهدف الحفاظ على مصالح الأمن القومي حسب تعبيرهم. والنواب المعترضون يرون في الانضمام لهذه المجموعة فوائد اقتصادية، لكن بالمقابل سيصبح هناك تضييق سياسي باستخدام تعاريف وقوانين "مجموعة العمل المالي" كذريعة للضغط على البلاد مجدداً، قائلين إن هذا سيضر بمحور المقاومة بالدرجة الأولى، في إشارة للدعم المالي الذي تؤمنه إيران لعدد من الفصائل في الإقليم، والتي صنفت في وقت سابق كمنظمات إرهابية.
ووجه ستة نواب من مجلس الشورى الإسلامي، يوم الثلاثاء، رسالة للرئيس روحاني، جاء فيها أن قبول الحكومة بالانضمام للمجموعة ستكون له تبعات أمنية. ونوهوا إلى أن الموافقة على الأمر ليست من صلاحيات وزارة الاقتصاد ولا الحكومة نفسها، وإنما من وظائف مجلس الأمن القومي والبرلمان. وورد في الرسالة التي نشرتها وكالة "فارس"، أن "أحد أهم البنود التي تطالب مجموعة العمل المالي إيران بالموافقة عليها ولم تتنبه لها الحكومة وتجاوزتها عمداً أو سهواً، ما يتعلق بضرورة تعديل إيران لقانون الدعم المالي للإرهاب والذي ترفضه بدورها، ومطالبتها بحذف الفقرة المتعلقة بضرورة دعم كل الفصائل والجهات التي تدعو للتحرر، وتدعم المقاومة، وتقف بوجه الاحتلال الخارجي والاستعمار والتمييز العنصري، وهو ما يعني اتباع تعريف الإرهاب الذي تستند إليه (فاتف)، لا مراعاة الرؤية الإيرانية". ورأى هؤلاء النواب أن هذه المجموعة تعادي محور المقاومة وستعتبر دعم طهران لحزب الله ولحركة حماس مخالفاً ومناقضاً لمعاييرها، وهو ما يعني استخدام الملف ضدها مستقبلاً.
 
وتعليقاً على الموضوع، قال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، حشمت الله فلاحت بيشه، "إنه سيكون أمام الحكومة خياران؛ إما أن تحمل الملف للبرلمان طوعاً للمصادقة عليه كمشروع، وستتم بهذه الحالة دراسة التفاصيل وشروط الانضمام وأي البنود التي سيتم الموافقة عليها طالما الأمر اختياري؛ وإما أن تصادق الحكومة عليه بنفسها، وهو ما سيجرها إلى مشكلات مع البرلمان". وأضاف لـ"العربي الجديد" أنه يأمل ألا تسلك حكومة روحاني هذا الطريق. وأشار إلى أن البرلمان يملك الحق القانوني في الاعتراض على الأمر بل وله الحق في مناقشته دستورياً.
 
وفي ظل وجود وجهتي نظر متباينتين في الداخل، يبدو أن عامل قلق المؤيدين مرتبط بعدم فتح الباب، حتى الآن، أمام التعاملات المالية الإيرانية للاستفادة من الاتفاق، فيما يتخوف المنتقدون من محاولة محاصرة الدور الإيراني الداعم لعدة جهات في الإقليم، سواء في فلسطين أو سورية والعراق وحتى اليمن.
 
ويقول المحلل السياسي، حسن هاني زاده، إن البعض في الداخل يرى أن تلك "المجموعة" المتخصصة بمكافحة غسيل الأموال ترتبط بالغرب وخاصة بالولايات المتحدة الأميركية، ويتخوفون من التجسس على عمليات انتقال الأموال من وإلى إيران، وهو ما يصب لصالح إسرائيل وأميركا حسب تعبيره. وأضاف لـ"العربي الجديد" أن هذا الملف قد يتحول لملف خلافي داخلي إذا لم يتم التنبه للأمر في ظل وجود نقاط استراتيجية بالنسبة لسياسة طهران الخارجية، وأولها دعم فصائل المقاومة، مثل "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي وحتى حزب الله اللبناني، معتبراً أن انضمام إيران يعني فرض رقابة مالية صارمة من قبل مجموعة، يراها البعض بوصفها موازية لأجهزة استخبارات عالمية ستعمل على استغلال ما تراه إيران صحيحاً لتصنيفه كدعم للإرهاب، وهو ما يعني فتح ملف خلافي دولي جديد مستقبلاً، حسب قوله.