كأنَّ الحركة الديبلوماسية في لبنان مستنسَخة عن بعضها البعض، تحكمها أسطوانة الحرص على لبنان وأمنه واستقراره، إلى جانب رزمة من العواطف واللياقات والمجاملات التي تفرضها الأصول الديبلوماسية.
هذا الاستنساخ يتكرَّر في كلّ المقرات السياسية والرسمية. وتلك الأسطوانة مطلوب لها أن تدور فقط، فيما الحواس الديبلوماسية الخارجية مسخّرة لرصد الوقائع الدولية والإقليمية.
تلك الحركة الديبلوماسية، كشفت عن نفسها، خلال لقاء عُقد قبل أيام بين ديبلوماسي غربي ومسؤول لبناني، وفيه:
• الديبلوماسي الغربي: لماذا أنتم مختلفون؟
- المسؤول اللبناني (مستغرباً): هل سؤالك جدّي؟
• أكيد!
- هناك ملفات حكومية وسياسية محلّ إشكال، وملف رئاسة الجمهورية محلّ انقسام.
• أعرف ذلك!
- إذاً... لماذا تسأل؟!
• نعرف ما يجري عندكم، لكنني أمهّد بسؤالي لأبلغك أمراً.
- ما هو؟!
• نعترف أنكم كلبنانيين تملكون «حيوية سياسية».
- تقصد حيوية الاشتباك في ما بيننا.
• العالم يراكم تختلفون، وتدخلون في تعقيدات حتى يصير من الصعب عليكم الخروج منها، نحن نتابع ما يجري عندكم، ونجد صعوبة في فهم ما يجري.
- غالبية السياسيين لا يفهمون ما يجري، ولا سبب رفع وتيرة التصعيد السياسي. لقد حصلت محاولات عديدة لتنفيس الاحتقان وفشلت.
• ألا يوجد سبيل للتوافق في الموضوع الرئاسي؟
- هذا الموضوع هو مصدر التوتر القائم والدائم. حاولنا أن نُثبت أننا قادرون على إنتاج «رئيس صنع في لبنان» ولكننا فشلنا.
• كان للبطريرك مار بشارة بطرس الراعي جهد في هذا الاتجاه، وقد أيّدناه، وهناك مَن جاء إلينا ليقول إنّ البطريرك أخطأ بحصر المرشحين بأربعة فقط.
- سمعنا هذا الكلام. وسمعنا أيضاً مَن أخذ على البطريرك أنه اختزل الموارنة بأربعة، وبالتأكيد هو لا يقصد ذلك، بل قصد التسريع في إجراء الانتخابات الرئاسية. أعتقد أنّ البطريرك أدرك صعوبة مسعاه ولذلك انكفأ.
• كان هناك جهد للرئيس نبيه برّي عبر الحوار، لكنه لم يصل إلى نتيجة.
- ... ولن يصل، طالما أنّ العقلية اللبنانية على ما هي عليه. صرت أخشى أننا لن نتمكّن من إنتخاب رئيس إلّا إذا ساعدنا الخارج.
• قرأنا كلاماً بهذا المعنى للرئيس برّي، ولاحظنا أنه مدرك لصعوبة هذا الأمر. ونحن نشاركه ذلك. ودعني أكُنْ صريحاً معك. بعض اللبنانيين لا يريدون أن يصدقوا أنّ العالم منشغل عن لبنان وغير مهتم به. ولنفرض أنّه قرَّر المساعدة، فأي تسوية للبنان تتطلب صفقة كبيرة، وشرط الصفقة أن تتأمّن ظروفها، وأن يوجد لها طرفان، أو أطراف ليشاركوا فيها، وهذا ليس متوافراً.
مع الاسف، لدى الغرب إنتقاد واضح لحال اللبنانيين، لأنّهم يطلبون من العالم أن يساعدهم وينتظرون أن يبادر لمساعدتهم، بينما هم يغوصون عميقاً في خلافاتهم. فما هي وظيفة اللبنانيين، إن كانوا يرفضون أن يساعدوا أنفسهم، وكيف للعالم أن يساعدهم، ويستجيب لطلبهم بينما هم لا يساعدون انفسهم. يجب أن تدركوا أنّ أمركم بيدكم والعالم اختلف اليوم. الظروف تبدلت، والأوليات انقلبت، والاهتمامات والأجندات تعدّلت، وصارت كلّ دولة مهتمة بنفسها ولا تهتم بما هو خارج حدودها... ألا يسمع اللبنانيون الأخبار؟
قبل فترة، قال المسؤول الأميركي توماس شانون في بيروت لا مبادرات أميركية لحلٍّ رئاسي في لبنان. وطالما لا توجد مبادرات أميركية، لا توجد لا مبادرات غربية ولا حتى عربية.
- أشاركك الرأي بأننا لا نساعد أنفسنا. أفهم من كلامك أنّ انتظارنا للعالم ليساعدنا ما هو إلّا مضيعة للوقت.
• صح.
- ما اخشاه شخصياً هو أننا نقترب من مرحلة قد نصبح فيها غير قادرين على التقاط أنفاسنا.
• مع الاسف وضعكم صعب، وما تقوله يجب أن يشكل حافزاً لكم لكي تتّفقوا.
- كيف نتّفق والجميع متمسّك بترشيحه ولا يتراجع عنه، ولا إنتخابات رئاسية في هذا الجو. سليمان فرنجية قال إنه لن ينسحب ولن يُلغي نفسه، وميشال عون قال إنه لن يستجيب لمَن يطلب منه الإنسحاب. ويرفض أن يكون جسر عبور لأيّ كان إلى رئاسة الجمهورية. ولا زال يتحدّث عن أنّ الظروف تميل نحوه، وتخدم وصوله الى رئاسة الجمهورية.
• حتى ولو طلب «حزب الله» منه الانسحاب؟
- لن يطلب الحزب ذلك، هو يدعمه إلى النهاية.
• لو أراد «حزب الله»، ألا يستطيع أن يضغط على عون؟
- الحزب لن يضغط على عون، أفهم من كلامك أنك لا تؤيّد وصوله إلى الرئاسة؟
• لم أقل ذلك، نحن مع أن تتّفقوا كلبنانيين، وما تتّفقون عليه نحن ندعمه.
- أؤكد من الآن أننا لن نتفق.
• لاحظنا أنّ الحوار بين سعد الحريري وعون قد بدأ وتوقف، إلى أين وصل؟
- لا أعرف، قيل لنا إنّ الجو إيجابي بينهما وان الحريري سيلتقي السعوديين، ولم نسمع أنه التقاهم، ومعلوماتي أنه سيعود إلى بيروت بعد العيد.
• أراك متشائماً بالنظرة إلى هذا الحوار.
- هناك أمور تحصل وكأنها لا تحصل لأنّها لا تؤدي الى نتيجة. الحوار بين الحريري وعون هو حوار مجرّب سابقاً ووصل الى طريق مسدود. ولا أعتقد شخصياً أنّ هناك أموراً استجدت وتمّ العثور على مفتاح القفل وفتحت الطريق. حتى الآن ما زلت مقتنعاً بأنّ المفتاح موجود في السعودية ولم يتمكن الحريري من الوصول إليه.
• معنى ذلك أنّ الحوار بين الحريري وعون قد فشل؟
- من الأساس لا أمل بنجاحه. لكلٍّ منهما هدفه وكلاهما يعتقد أنّ الحل في يد الآخر. وهذا ما نفته الوقائع. حتى عون تلقى من حلفائه النصيحة بألّا يذهب بعيداً في الرهان على الحريري. وهنا أعود بك بالذاكرة إلى الحوار الأول بينهما قبل أكثر من سنة.
يومها قال «حزب الله» لعون عندما عبّر الأخير عن الرغبة في محاورة الحريري: «إسمع منه... وكن حذراً»، والحزب مقتنع بأن ليس في يد الحريري ما يعطيه لعون. وفشل الحوار.. وبادر الحريري بعده فوراً إلى تبنّي ترشيح النائب فرنجية.
ثمّ انفتح عون على سمير جعجع، وعقد معه تفاهماً تحفّظ عليه «حزب الله» ونصَح حليفه بالحذر ودرس خطواته أكثر. لكنّ عون كان يعتقد أنه بهذا التفاهم سيتقدّم خطوات نحو بعبدا، لكنه «حُبس» في هذا التفاهم وابتعد من بعبدا أكثر.
المهم، عاد ودخل عون بحوار جديد مع الحريري وأبلغه «حزب الله» الكلام ذاته: «استمع إلى ما لديه... وكُن حذراً»، ولكنّ هذا الحوار وصل الى نتيجته الطبيعية، أي الفشل.
• ماذا تعني في ما تقول؟
- كلامي واضح، عون يريد أن يأخذ والحريري لا يستطيع أن يعطي. وهذه الحقيقة واضحة للعيان وأوّل مَن قرأها «حزب الله»، فحاول أن يُنزل حليفه عن شجرة الحوار غير المثمرة رئاسياً، إلّا أنّ عون أصرَّ على البقاء على الشجرة حتى سقط عنها.
نبيل هيثم