لا تريد تلك السيدة من بلدة بر الياس، آخر بلدات البقاع الأوسط التي تتفرع منها طريق نحو المرج، أولى بلدات البقاع الغربي، الحديث عن مأساة حياتها مع الليطاني. ما زالت السيدة الستينية تتشح بالسواد حداداً على زوجها الذي قتله تلوث الليطاني بالسرطان. السيدة نفسها تغير ملابسها إلى "الملون" وتتبرج ببعض المساحيق غير اللافتة عندما تقصد بكر أبنائها في المستشفى. ابنها، ابن الـ 25 عاماً، مصاب أيضاً بالسرطان ووضعه الصحي سيئ. هي لم تخبره بوفاة والده بعد ليس تجنباً لإحزانه فقط، "بل لكي لا يدرك حتمية وفاته قريباً كما والده"، تقول.

عندما تزوجت فريال (اسم مستعار) وعدها زوجها ببناء منزل على ضفة الليطاني. يومها، كانت في العشرين من عمرها، وكان النهر روضة بر الياس ومتنفسها الأحب إلى قلوب أهلها. تفصل حديقة منزلها بينه وبين النهر بطول 15 متراً فقط. سكنت في المنزل قبل 26 عاماً فقتل النهر زوجها وها هو ابنها يحتضر. صار النهر سبب آلامها بعدما ضربها في تسببه بمرض أغلى شخصين على قلبها.

يقول رئيس بلدية بر الياس مواس عراجي لـ "السفير" إن ثلاث وفيات من أصل خمسة في البلدة هي بسبب السرطان، حتى أن الناس صاروا يعرفون سبب وفاة أي شخص قبل أن يسألوا عن ذلك "بالسرطان مش هيك؟"، حلّ السؤال مكان "يا حرام شو صار له".

يجري نهر الليطاني في بر الياس وحدها نحو ستة كيلومترات عابراً ثلث أراضي البلدة وناسها الذين يروون أراضيهم منه. يقول عراجي إن أخطر ما يحصل هو ري المزروعات الورقية بمياه الليطاني الملوثة. كلامه تثبته نتائج تحاليل مصلحة الأبحاث الزراعية التي بينّت أن الورقيات المروية بالمياه الملوثة تحتوي على 42 ضعف المعدلات المسموح بها من المعادن الثقيلة كالرصاص وكروميوم. كما ان جميع الخضار المروية من الليطاني ملوثة. الأمراض والروائح هجرت نحو 15 عائلة عن ضفة النهر. ترك هؤلاء، وفق عراجي، منازلهم التي تعبوا وتعذبوا كثيرا لبنائها وراحوا يبحثون عن سكن بعيد عن الليطاني "بعدما كان السكن على ضفة النهر نعمة يحسدون عليها".

أما من ما زال يسكن بالقرب من النهر "فمرغم لا بطل" وفق رئيس البلدية إذ "ليس لديه خيار آخر". تمتد الأراضي الزراعية لبر الياس على مساحة ثلاثين ألف دونم. يتوزع الري على ثلث من الليطاني، وثلث من نهر الغزيل الذي ينبع من عنجر، وثلث من الآبار الارتوازية. يعتقد الذين يروون أراضيهم من الغزيل أنهم نجوا من تلوث الليطاني، كونه (أي الغزيل) ما زال متدفقاً حتى اليوم في أواخر الصيف، وإن بقوة أقل من الشتاء. تحاليل مصلحة الأبحاث العلمية تقول غير ذلك. اثبتت نتائج العينات التي أخذت من مختلف المواقع في مجرى النهر، انها "تحتوي كلها على الحد الاقصى من التلوث الجرثومي"، (أكثر من 1100، بينما المسموح به لا يتجاوز الصفر من الكوليفورم بالملليليتر).

يلحظ عراجي الأثر الاقتصادي لتلوث الليطاني على الناس "تدنت أسعار الأراضي الزراعية والعقارات القريبة من النهر بنحو 25 في المئة على أقل تقدير. يصل سعر متر الأرض الزراعية بعيداً عن الليطاني ثلاثين دولارا، بينما ينخفض إلى 15 دولاراً بمحاذاته". التلوث نفسه رفع من بدل ضمان الأراضي الواقعة ضمن مساحة الكيلومترات الثلاثة الأولى من مجرى الغزيل "باعتبار أنها نظيفة"، بفارق مئة ألف ليرة عن ضمان بقية المساحات.

يعتبر عراجي انه ليس لدى المواطن "أم تبكي عليه"، ولذا ترك المسؤولون تلوث النهر يتفاقم غير آبهين بصحة الناس إلى أن أعلن المجلس الوطني للبحوث العلمية أن الليطاني ومعه بحيرة القرعون قد ماتا "عندها قامت القيامة كأن كل ما حصل ويحصل قبل ذلك لا أهمية له". ومع ذلك يأمل الناس أن يؤدي "استعراض العضلات الرسمي" لمشكلة تلوث حوض الليطاني أن يستعيدوا حياتهم الطبيعية مع النهر وتعود جودة منتجاتهم واقتصادهم إلى ما كانت عليه.

قب الياس


يعتبر رئيس بلدية قب الياس جهاد العلم بأن بلدته عادت إلى الوراء 70 إلى 75 سنة بسبب تعاطي الدولة مع المنطقة. يومها، قبل 75 سنة كانت توجد في البلدة محطة لتكرير المياه المبتذلة وفق التقنيات المعتمدة آنذاك. اليوم تسعى البلدة للحصول على تمويل يساعدها على تنقية مياهها الآسنة التي ترمى في الليطاني، كما غيرها من بلدات المنطقة. يقول العلم إن سكان البلدة متضررون من الليطاني كما بقية سكان البلدات الأخرى من حزين إلى القرعون.

يصف العلم الليطاني من منبعه ولغاية القرعون بـ "المجرور الطويل الخالي من المياه صيفاً بالتحديد". يقول إن كل سكان البقاع يناضلون لوقف هذا المجرور من دون جدوى.

تقع قب الياس فوق الليطاني، ومباشرة تحت الطريق التي ينتهي عندها ضهر البيدر، وعليه لا تتأثر منازل اهلها بالنهر مباشرة، بينما يروي العديد من مزارعي سهلها أراضيهم من المياه الآسنة المتجمعة في النهر "بيتخانقوا ع مية المجارير»، يقول العلم. تقع الأراضي التابعة لقب الياس في مناطق الناصرية وهي تقع عقاريا وإداريا ضمن نطاق بلدية قب الياس مع تل الخضر ( أكبر مساحاتها المزروعة) وأرض "جفتلك إده". مع مجاريرها تصب المعامل الموجودة في نطاق قب الياس نفاياتها الصناعية فيه.

في سهل قب الياس ستجد أكثر من أنبوب صرف صحي مكسورا. يعمد المزارعون إلى كسر الأنابيب ليضخوا المياه الآسنة إلى أراضيهم لري المزروعات. هنا لا أحد يهتم بمن سيستهلك هذه المزروعات، والكل يدعي أنه يروي أرضه من الآبار الجوفية المحفورة في سفح السلسلة الغربية.

ويحدد رئيس بلدية قب الياس جهاد العلم خسائر البلدة من الليطاني بـ "عدم توفر المياه الكافية لري الأراضي وبالتالي تراجع المردود الزراعي، وكذلك ري الأهالي أراضيهم بمياه هي عبارة عن مجارير آسنة وصناعية مع ما يتركه ذلك من آثار صحية واقتصادية عليهم وعلى تسويق الإنتاج".

ويلفت العلم إلى ان بلدة قب الياس وبلديتها مستعدتان للتعاون مع الدولة في كل ما ترتئيه بالنسبة لمعالجة التلوث سواء الصرف الصحي منه أو الزراعي "فليبدأوا العمل فقط ونحن جاهزون".

(سعدى علّوه )