ليس ما يشير إلى أن الاتفاق الأميركي- الروسي لوقف النار في سوريا قابل للحياة. ما يعكسه هذا الاتفاق، ببنوده السرّية، هو رضوخ أميركي لروسيا في وقت تعرف موسكو ما تريده، فيما هناك استسلام أميركي كامل لرغبات الكرملين. يعكس الاتفاق الذي هلّل له وزير الخارجية الأميركي جون كيري رغبة روسية وإيرانية في استغلال عهد باراك أوباما، حتى الساعة الأخيرة من هذا العهد. كيف لا تسعى الدولتان إلى ذلك والإدارة الأميركية تعتبر أن الإنجاز الخارجي الوحيد الذي حقّقته طوال ثماني سنوات هو توقيع مجموعة الخمسة زائدا واحدا الاتفاق النووي مع إيران صيف العام الماضي.

للتذكير فقط، إن مجموعة الخمسة زائدا واحدا تضمّ الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إضافة إلى ألمانيا.

الواقع أن الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني هو اتفاق أميركي- إيراني أصرّت إدارة أوباما على الوصول إليه نظرا إلى اعتقادها أن إيران أهمّ دولة في المنطقة، وأن تطبيع العلاقات معها يعني الكثير متجاهلة أن هناك مشروعا توسعيا إيرانيا يقوم على الاستثمار في الغرائز المذهبية من جهة، وعلى تشكيل ميليشيات مذهبية في مختلف أرجاء العالم العربي من جهة أخرى.

من الواضح أن سوريا وشعبها تحولا إلى ضحية الاتفاق النووي الأميركي- الإيراني، وأنّ الرئيس الأميركي وقع تحت تأثير مجموعة من المستشارين المعجبين بإيران. هؤلاء يشكلون حلقة ضيقة محيطة به ويرفضون الاعتراف بأنّ هناك توازنا تاريخيا في المنطقة لا يمكن الإخلال به في حال كان مطلوبا المحافظة على الاستقرار في الشرق الأوسط والخليج. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ إدارة أوباما صارت تسمح لنفسها باللعب بالاستقرار في الشرق الأوسط والخليج بعدما اعتقدت أنّ المنطقة كلّها لم تعد مهمّة، لا استراتيجيا ولا نفطيا، وأن ثمة حاجة إلى إعادة رسم خارطتها في ضوء الطموحات الإيرانية التي يظهر أن واشنطن تعتبرها أكثر من مشروعة.

من سيدفع ثمن هذه الكارثة التي يبدو أن الإدارة الأميركية على استعداد لجرّ المنطقة إليها بالتواطؤ مع روسيا، بل بالتفاهم العميق معها في تحدّ للواقع وللثوابت التاريخية؟


هناك ثلاث دول عربية دفعت إلى الآن ثمن الكارثة التي تبدو إدارة أوباما مصمّمة على الذهاب بها إلى النهاية. هذه الدول هي العراق وسوريا ولبنان، هذا إذا وضعنا اليمن، الذي يشكّل حالة خاصة، جانبا.

بالنسبة إلى العراق، يتبيّن كلما مرّ يوم كم أن العراق صار تحت سطوة إيران، وكم أنّ الولايات المتحدة قابلة بذلك، بل تعمل من أجل تكريس هذا الوضع. عمليا، لم يعد العراق سوى جرم يدور في الفلك الإيراني في ظلّ رضوخ أميركي لهذا الواقع، علما أنّه واقع تسببت به الولايات المتحدة نفسها عندما قرّرت غزو العراق وقلب النظام فيه بمشاركة إيرانية. لا يمكن لعاقل الترحّم على نظام صدّام حسين. لكنه لا يمكن لعاقل أيضا سوى الاعتراف بأن الولايات المتحدة لم تأت بنظام أفضل، بل إنّ كل ما في الأمر أنّها لعبت الدور المحوري في تغيير ميزان القوى في المنطقة لمصلحة إيران من باب المذهبية ليس إلّا.

بالنسبة إلى سوريا، ليس هناك سوى ما يؤكد حصول استسلام أميركي لروسيا وإيران. ليس الاتفاق الأخير بين روسيا والولايـات المتحدة في شأن وقف لإطلاق النار سوى دليل على انسحاب أميركي من الملفّ السوري لمصلحة روسيا وإيران. ستتابع روسيا وإيران والميليشيات المذهبية التابعة لـ“الحرس الثوري” حربها على الشعب السوري، فيما الولايات المتحدة تتفرّج على واقع جديد تحاول موسكو وطهران فرضه على الأرض، وكأنه لا وجود للشعب السوري ورغبته في التخلص من نظام أقلّوي قاتل لم يكن لديه من طموح له سوى تحويل السوريين إلى عبيد له. ما هذا النظام الذي يذهب رئيسه لتأدية صلاة عيد الأضحى في داريا وكأنّه يريد الاحتفال بتهجير أهلها من بلدتهم؟ كيف يمكن لرئيس نظام السماح لنفسه بالإقدام على مثل هذه الخطوة وكأن لا همّ له سوى الانتقام من الشعب السوري الذي قال أخيرا لا للظلم والقهر؟

تقبل إدارة أوباما بهذا الواقع وتحاول تكريسه على الرغم من أنّه مخالف للطبيعة ومنطق التاريخ. أكثر من ذلك، تتجاهل أميركا الدور الإيراني في لبنان والجهود التي تبذلها طهران لتحويله مستعمرة إيرانية. هناك رضوخ أميركي لرفض إيران، عبر سلاح “حزب الله”، انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، وإصرارها على تغيير طبيعة النظام اللبناني كي يصبح البلد تحت وصاية طهران. تسعى إيران، بكلّ بساطة، إلى تغيير الدستور اللبناني كي تتمكن من الإمساك بالقرار في البلد عبر نص قانوني بدل أن تستمرّ في سياستها الحالية. تقوم هذه السياسة على تعطيل الحياة السياسية والاقتصادية بواسطة السلاح المذهبي لميليشيا مسمّاة “حزب الله”.

هناك عامل مشترك بين العراق وسوريا ولبنان. يتمثّل هذا العامل في إصرار إدارة أوباما على حماية الاتفاق النووي مع إيران، بغض النظر عن الثمن. المؤسف أن الثمن تدفعه ثلاثة بلدان عربية كان يمكن أن يكون وضعها أفضل بكثير مما هو عليه الآن لو كان هناك دور أميركي فاعل في الشرق الأوسط والخليج. ولكن ما العمل عندما يكون الهمّ الأوّل والأخير لإدارة أوباما عدم إزعاج إيران خشية تخليها عن الاتفاق في شأن الملف النووي.

إنّه قصور ينم عن جهل أميركي في إيران التي استقوت بملفّها النووي متجاهلة أن هذا الملفّ ليس سوى خدعة لم تنطل سوى على الولايات المتحدة وعلى إدارة أوباما بالذات. إنّه أيضا قصور أدّى إلى الاستسلام لفلاديمير بوتين في سوريا، أي لتحويل الساحل السوري مجرّد مستعمرة روسية بغض النظر عما يريده السوريون.

ما الذي سيرثه خليفة باراك أوباما؟ الأكيد أنّه سيرث مشاكل كبيرة، في طليعتها سوريا، لكنّه لن يكون بسذاجة الرئيس الأميركي الحالي، وهي سذاجة قد تكون عائدة إلى حسن نيّة أو إلى عداء متأصل في باراك أوباما لكل ما هو عربي في المنطقة…

كيف يمكن لرئيس أميركي أن لا يرى في المنطقة سوى الإرهاب السنّي الذي يجسده “داعش” ويغض النظر عن ارتكابات الميليشيات المذهبية الإيرانية التي تقاتل في العراق وسوريا واليمن وتعمل على قلب النظام في لبنان. هل يأتي يوم تعود فيه الولايات المتحدة إلى المنطق الذي يقول إنّ التطرف السنّي يغذي التطرف الشيعي وأن العكس صحيح أيضا… أم أن أوان حصول مثل هذه الاستفاقة الأميركية فات، وأنّ الهمّ الوحيد لأيّ إدارة أميركية استرضاء إيران والسير في الخط الذي ترسمه لها إسرائيل؟

 


خيرالله خيرالله: العرب