أن يصر نظام طهران على أن يلعب بشكل صريح دون مواربة بورقة التحريض الطائفي ضد الدول والأنظمة التي تتقاطع مع منهجه في الحكم فهذا أمر لم يعد يثير الاستغراب لدى أيّ مراقب موضوعي يرصد ما يجري من أحداث متلاحقة يشهدها العالمان العربي والإسلامي، فاللعب بات مكشوفا بعد أن تمكنت المخالب التي زرعها في أكثر من بلد عربي من أن تفرض وجودها بقوة السلاح والإرهاب، وباتت تملك ما يكفي من الإمكانات البشرية والمادية لزعزعة استقرار الأوضاع السياسية والأمنية في البلدان التي تنتمي إليها وتحمل هويتها حتى أنها أمست قادرة على أن تجهض أيّ جهد وطني يسعى دعاته إلى تصحيح الأوضاع الخاطئة وقطع الصلة بما له صلة بماض بائس.
إيران اليوم لم تعد تلتزم السريّة في تحركاتها وبما تعقده من صفقات مع قوى وأحزاب وشخصيات سياسية على طول خارطة البلاد الناطقة باللغة العربية بما في ذلك تلك البلدان التي تكاد تخلو إلى وقت قريب من أيّ تنوع طائفي ملموس لا يسمح لأجندة طهران أن تحظى بفرصة سحب مجتمعاتها إلى دوامة مشروعها القائم على إشاعة الانقسام الطائفي وتغذية تداعياته كما هو الحال على سبيل المثال في مصر وتونس والجزائر والسودان، إلاّ انها تمكنت من أن تؤسس فيها قواعد مذهبية ستكون ورقتها التي ستراهن عليها مستقبلا لإشاعة الفوضى وتعميق مشاعر الكراهية الطائفية وعدم الثقة بين الاطراف المختلفة.
ودخول إيران إلى هذه المجتمعات ارتكز على أساليب تقليدية لم تعد خافية على أحد، في مقدمتها يأتي حرصها على تشجيع تبادل الوفود السياحية بينها وبين تلك البلدان، والعمل على تأسيس مراكز ثقافية وجمعيات خيرية توفر لها مناخا ملائما لكي تخترق بخطابها الطائفي نسيج هذه المجتمعات بطرق ناعمة وصولا إلى الهدف البعيد بتفتيتها وانقسامها مذهبيا وعلى نار هادئة.
إيران لم تعد تلتزم السرية في تحركاتها وبما تعقده من صفقات على طول خارطة البلاد الناطقة باللغة العربية
إيران لديها مشروع سياسي يمثل تهديدا خطيرا لكل المجتمعات العربية والإسلامية، وتسعى من ورائه إلى اختطاف وعي المسلمين وغسل أدمغتهم عبر منظومة معقدة من الأجندة تتداخل فيها سلطة المال والإعلام والتنظيمات الميليشياوية، وما كان ادّعاؤها بالسعي إلى تحرير المسجد الأقصى من الاحتلال والدفاع عن آل بيت الرسول محمد ومظلومية الشيعة إلا غطاء لتمرير هذا المشروع، والنقطة البعيدة التي ترمي إلى الوصول إليها في آخر المطاف هي أن تجد نفوذها السياسي قد امتدّ على مساحة جغرافية واسعة خارج حدود خارطتها.
سبق لإيران أن جرّبت مبكرا زرع بذرة هذا المشروع مع عدد من الأحزاب العراقية الشيعية خلال فترة الحرب التي خاضتها ضد العراق في ما بين 1980 و1988، فكانت بمثابة حقل تجارب مارست عليها عمليات التسقيط وغسل الأدمغة، ثم تصاعد نشاطها هذا بوتيرة أوسع بعد سقوط بغداد تحت الاحتلال الأميركي عام 2003 عندما فتحت أمامها واشنطن (وبشكل مريب) كل الأبواب والنوافذ التي كانت مغلقة في وجهها طيلة فترة نظام حكم البعث، وبدا للمراقبين ما يحصل من تمدد مخيف لنفوذها في بلد سبق له ان أذاقها أقسى الدروس والهزائم العسكرية، وكأنه جزء من عملية شراكة أو تقاسم أدوار بينها وبين الأميركان بهدف تدمير بنية الدولة والمجتمع العراقي.
خلال فترة حكم حزب البعث للعراق (1968 – 2003) احتضنت إيران أحزاب الإسلام السياسي الشيعي على أرضها وساهمت في إعدادها وتنظيمها وتدريبها وتمويلها إلى الحد الذي وجدت هذه الأحزاب نفسها وجها لوجه ضد بلدها فوقفت تقاتل إلى جانب الجيش والحرس الثوري الإيراني في معظم المعارك التي دارت بين البلدين ولمدة ثمانية أعوام، لم تجد حرجا عندما تلطخت أياديها بدماء الجنود العراقيين، وهناك الكثير من القصص المؤلمة، التي رواها الأسرى العراقيون الذين عادوا إلى الوطن بعد انتهاء الحرب، تقدم لنا أدلة بما يكفي على أن عناصر تلك الأحزاب كانت الأشدّ قسوة وعنفا عليهم من الإيرانيين في أقفاص الأسر. العديد من الرموز السياسية التي تحكم العراق هذه الأيام كانت في مقدمة من شارك الجيش والحرس الثوري الإيراني القتال ضد الجيش العراقي خلال فترة ثمانينات القرن الماضي، ابتداء برئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب الدعوة الحاكم نوري المالكي وانتهاءً بزعيم ميليشيا بدر هادي العامري الذي يحتفظ له موقع اليوتوب على الإنترنت بلقاء قصير كان التلفزيون الإيراني قد أجراه معه في مطلع ثمانينات القرن الماضي عند الخطوط الأمامية لجبهة الحرب وهو يقاتل إلى جانب الإيرانيين ضد الجيش العراقي، وفي هذا اللقاء يقول بصريح العبارة “نحن تحت رهن إشارة الإمام الخميني، إذا قال لنا حرب فهي إذن حرب، وإذا قال سِلم فهي سِلم”.
إزاء ما يجري من عملية تجييش طائفي بدأت تمارسه إيران بشكل غير معهود يتوجب على العربية السعودية ودول الخليج ألّا ينساقوا إلى ساحة هذا الخطاب
لم يكن عناصر حزب الدعوة والمجلس الأعلى مرغمين على قتال جيش بلدهم، بل على العكس كانوا يقاتلون بإرادتهم انطلاقا من قناعة أيديولوجية وطائفية هي امتداد لتركيبة النظام الحاكم في طهران، بمعنى أنهم كانوا ومازالوا جزءا منه ويعبرون عنه.
طهران ومن خلال ماكنتها الإعلامية الهائلة التي تتشكل من العشرات من القنوات الفضائية التي تبث أجندتها الفكرية الطائفية عبر القمر نايل سات وأقمار أخرى، استطاعت أن تسحب البساط من تحت أوساط شعبية لا بأس بحجمها، سواء في العراق أو الخليج العربي أو لبنان أو اليمن، وتمكنت من أن تسقط هذه الأوساط في فخ الولاء المطلق للمذهب على حساب انتمائها الوطني، وإلا ما معنى السكوت المطبق لهذه الأوساط عن الجرائم البشعة التي ترتكب في حق الشعب السوري منذ خمسة أعوام من قبل النظام الحاكم في دمشق ومن تحالف معه من الميليشيات الأفغانية والباكستانية والعراقية واللبنانية إضافة إلى الطيران الروسي وكأن لا شيء يحدث على الأرض السورية، في مقابل خروج هذه الأوساط نفسها في تظاهرات حاشدة منددة بما كانت قد تعرضت له من اعتداء بالضرب على معمم شيعي نيجيري من قبل سلطات بلده، مع أنه لم يسبق لها أن سمعت باسم هذا المعمم من قبل، ولم تعرف ما إذا كان متورطا في جرم يستحق عليه العقاب من قبل سلطة بلده باعتباره مواطنا نيجريا قبل أن يكون حاملا لهوية مذهبية.
بناء على ذلك اصبحت الجرائم البشعة التي ترتكب يوميا منذ خمسة أعوام في حق المدنيين السوريين لدى هذه الأوساط على هذا المستوى من الرخص واللامبالاة لمجرد أنهم ليسوا على نفس مذهبها، مع أنهم إخوة في الدم والعرق والهوية والتاريخ، بينما تقوم الدنيا لديهم ولا تقعد لمجرد أن شخصا على نفس مذهبها في أقصى القارة الأفريقية تمّ الاعتداء عليه.
من يتابع الإعلام العراقي المحسوب على السلطة يجد قد أناب مهمة ترويج الخطاب الطائفي الموجه ضد دول الجوار إلى عدد كبير من القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية التي حرصت إيران والتحالف الوطني على تأسيسها، إضافة إلى جوقة كبيرة من المثقفين (شعراء وكتاب وأدباء) اصطفوا في هذا الطابور والمئات من الحسابات الشخصية الوهمية في مواقع التواصل الاجتماعي لا تكف عن الترويج للعنف والخطاب الطائفي خاصة ضد دول الخليج.
لن تخرج هذه المناورات السياسية في صورة من صورها عن حالة الشراكة القائمة بين الأميركان والإيرانيبن
بدا واضحا هذه الأيام أن طهران قد وضعت نصب عينيها تسييس موسم الحج في مكة من خلال دعوتها إلى تدويل عملية تنظيمه تحت ذريعة أن المملكة العربية السعودية عاجزة عن إدارته بشكل جيد، مع أن المملكة تتولى إدارة وتنظيم الحج وبشكل سلس منذ العشرات من السنين، إلا أن طهران ترى غير ذلك لأنها تحمل في أجندتها مشروعا لتسييس طقوس الحج والدفع بها إلى أن تكون ميدانا لصراع مذهبي سيحمِّلُ المسلمين من ممكنات الاحتراب الدموي أكبر مما هم عليه. ومع الأخذ بعين الاعتبار حالة التشرذم والتشظي التي أصبحت عليها أحوال العرب والمسلمين، فلو نجحت إيران في مسعاها فإن المنطقة ستكون ساعتها قد دخلت نفقا مظلما لا أحد يمكنه أن يرى نهاية له.
إزاء ما يجري من عملية تجييش طائفي بدأت تمارسه إيران بشكل غير معهود يتوجب على العربية السعودية ودول الخليج ألّا ينساقوا إلى ساحة هذا الخطاب، لأن الانزلاق إلى هذا المسار سيدفع الجميع إلى ما لا تحمد عاقبته، وهذا ما يسعى إليه المسؤولون في طهران. في مقابل ذلك ينبغي العمل على رفع مستوى الوعي المجتمعي لمواجهة الخطاب الطائفي عبر خطط وبرامج تشتغل على تكريس مفهوم المواطنة، ويأتي الإعلام في مقدمة هذه الوسائل.
وفي نفس الوقت، يتوجب التعامل بجدية تامة مع التهديدات باجتياح دول الخليج التي يطلقها بين فترة وأخرى البعض من قادة الميليشيات، لأنها ليست تصريحات عابرة إنما تحمل بين سطورها رسائل تستدعي الحذر الشديد وإلا سنجد أنفسنا أمام تفاصيل مستنسخة من المشهد السوري أو اليمني أو الليبي.
تعكس هذه التهديدات حقيقة المواقف التي يضمرها التحالف الوطني الحاكم إزاء الدول التي تجاور العراق، وليس بعيدا عمّا جرى في اليمن من عملية انقلاب مسلح قامت بها ميليشيا الحوثيين ضد النظام الشرعي، وبموجبها تراجعت عن التزامها بمخرجات العمل الوطني التي سبق أن وافقت عليها مع النظام وبقية الأطراف اليمنية، وما كان تمردها إلاّ جزءا من مقدمة المشروع الإيراني في منطقة الخليج.
ولن تخرج هذه المناورات السياسية في صورة من صورها عن حالة الشراكة القائمة بين الأميركان والإيرانيبن في التعامل والضغط غير المباشر على الأنظمة في المنطقة العربية من قبل واشنطن عن طريق طهران، ولربما هذه الشراكة هي ثمرة الاتفاقية الخاصة بمراقبة مشروع إيران النووي التي سبق أن وقعتها مع مجموعة 5+1.
صحيفة العرب