من دون تردد او حتى تحفظ، يرجى ان يصمد اتفاق وقف اطلاق النار في سوريا ، بغض النظر عن التفاصيل، وعن الشياطين التي لا تزال تكمن في داخلها، وهي كثيرة . ثمة محرقة بشرية رهيبة، فاقت كل الحدود والتصورات، وقد آن لها ان تخمد، رحمةً بضحاياها السوريين الذين كف العالم عن إحصاء أعدادهم، وعطفاً على أشقائهم وأصدقائهم الذين ما عادوا يحتملون صور الموت والخراب والدمار.
وقف النار هو بأبسط المعايير الانسانية والاخلاقية إنجاز خارق، يوقف بورصة الدم السوري، او على الاقل يخفض من أرقامها اليومية المرعبة. ولا يبدو حتى الان انه يمكن ان ينهار، كما حصل مع اتفاقات عديدة سابقة، او بالتحديد كما في الاتفاق الذي تم التوصل اليه في شهر شباط فبراير الماضي، ولم يدم أياماً معدودة.
الشكوك كثيرة وكذا التحفظات والشروط المتبادلة. لكنها لحظة للأمل المجرد من أي حساب سياسي أو أي تقدير عسكري ، بان يكون هذا الاتفاق الاميركي الروسي الذي يبدو انه سقط على الاشقاء السوريين كهبة من السماء، هو المدخل الذي طال تأخره وطال انتظاره الى انهاء تلك الحرب السورية التي تخطت بوحشيتها وقذارتها كل ما عرفه العالم المعاصر من حروب تقليدية او أهلية.
السؤال الجوهري الوحيد الذي طرح في اليومين الاولين على بدء تنفيذ الاتفاق الذي إنتهك ولا يزال ينتهك على أكثر من جبهة، لكنه يمضي قدماً نحو إسكات الصواريخ والمدافع والبراميل المتفجرة: اذا كان بامكان اميركا وروسيا ان تفرضا على المتحاربين السوريين القاء السلاح او تنحيته جانباً ، لماذا تأخرتا حتى الان، حيث ارتفع منسوب الدم السوري الى معدلات إستثنائية.
في الرد على هذا السؤال يقال ان اميركا وروسيا دخلتا في مفاوضات شاقة ومعقدة وطويلة من اجل التوصل الى الاتفاق الذي لا تزال وثائقه الخمس سرية وهو ما يوحي بانها تجريبية. واذا كان التفاوض قد إمتد اكثر من اللازم، فإنه لا يمكن إستبعاد حقيقة ان الاميركيين والروس قد اختاروا التوقيت المناسب لهم لاعلان الاتفاق والشروع في التنفيذ. المؤكد ان الجانبين لم يأخذا في الاعتبار مناسبة عيد الاضحى، ولم يتعمدا ان يكون وقف النار هديتهم الى السوريين في العيد.
لعل في التوقيت عبرة ما، مع ان الاتفاق لن يخدم الرئيس الاميركي باراك اوباما في ايامه الاخيرة في الحكم ولن يفيد حملة المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، ولا طبعا حملة منافسها دونالد ترامب.. ومع ان الاتفاق لن ينفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يدير روسيا بقبضة من حديد، لا في تعديل مكانته الداخلية ولا في تغيير صورته الخارجية.
الارجح ان الاتفاق هو نتاج إحساس أوباما بالحرج والضيق من الاتهام الموجه له بالعجز والتواطوء ، والتفريط بالزعامة الاميركية العالمية، وهو من جهة أخرى ، مؤشر على شعور بوتين بان حملته العسكرية الضارية على السوريين تقترب من حدها الاقصى الذي يستدعي البحث عن بدائل لذلك الاستعراض الناري في سوريا. لكن هذين التقديرين بحاجة الى إختبار يتجاوز وقف النار ، ويفتح بالفعل آفاق الحل السياسي السوري، الذي من دونه لا يمكن للاتفاق ان يصمد سوى أسابيع أو أشهر لا أكثر.
الثابت حتى الان أن الاتفاق يعبر بواقعية شديدة عن إستحالة حسم الصراع بالقوة، وعن صعوبة إحداث تعديل جذري في موازين القوى، وعن حاجة ماسة الى عزل الأشد تطرفاً من المعسكرين المتحاربين، وعلى رأسهم تنظيم داعش وجبهة النصرة اللذين يستثنيهما الاتفاق ويستهدفهما، والاسد الذي تسرع في إعلان خطاب النصر من داريا. مهما تعددت القراءات للاتفاق وإختلفت، فإنه لا يجوز سوى التمني بان يصمد رأفة بسوريا وشعبها.