يحتاج اتفاق خريطة الطريق الأميركي - الروسي للحل في سوريا الذي أبرمه كيري - لافروف مساء الجمعة الماضي، لكي يصبح نافذاً على الأرض، وحتى يمكن التأكد من أنه بداية حلٍّ فعلي، وليس «سحابة محاولة صيفية» ستتبدّد كسابقاتها، الى نجاح الطرفين في تجاوز العقبات الآتية:

تتمثل العقبة الأولى في أن تثبت روسيا لواشنطن أنها قادرة فعلاً على الضغط على النظام السوري وحلفائه، خصوصاً ايران، لالتزام هدنة الـ48 ساعة التي ستبدأ في حلب وستُعمَّم لتشمل كلّ سوريا. فيما تتمثل العقبة الثانية في أن تثبت اميركا لموسكو قدرتها على إقناع فصائل المعارضة السورية بفكّ ارتباطها وتحالفها مع جبهة «فتح الشام» (النصرة)، وهذا يعني تفكيك أكبر تحالف عسكري للمعارضة برز في سوريا أخيراً تحت مسمى «جيش الفتح» الذي يضمّ الى «النصرة» كنواة صلبة داخله، عدداً كبيراً من فصائل المعارضة الإسلامية المسلّحة الأخرى. وكان لـ«جيش الفتح» الذي ظهر العام الماضي الفضل في السيطرة على مربع ادلب وجسر الشغور ومن ثمّ هذا العام تنفيذ هجوم فتح الثغرة في حصار حلب.

وكان قائد هذا التحالف (جيش الفتح) ابو عمر سراقب وهو في الوقت عينه القائد العسكري لـ»النصرة»، والذي قتلته قبل يوم من إعلان الاتفاق الروسي - الاميركي مع نخبة من قادة الجبهة، غارة غامضة شنّتها طائرة تقول «النصرة» إنها تابعة للتحالف الدولي.

ويرى مراقبون أنّ قتل الأميركيين لـ»ابو عمر سراقب»، شكل أوّل مؤشر عملي الى بدء مسار تحوّل كبير في العلاقات بين موسكو وواشنطن في سوريا، وبموجبه سيذهب الطرفان لتدشين بدء مرحلة تنسيق إستراتيجي بينهما تبدأ بإعلانهما «هدنة اختبارية» في حلب تمهّد لتنفيذ خريطة طريق تفضي لحلٍّ سياسي في سوريا. ويقوم جوهر هذا الاتفاق على أنّ كلّاً من موسكو وواشنطن توافقا على التزام المعادلات الأساسية الآتية التي ستوجّه من الآن فصاعداً سياساتهما في سوريا:

أولاً - ليس الآن وقت طرح مصير الرئيس بشار الاسد، بل الأولوية لوقف النار الذي تسوقه أميركا عند المعارضة السورية، بأنه يتضمّن إجبار النظام بالاعتماد على الضغط الروسي، على وقف قصفه الجوي للمدنيين، وإيصال المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة، وعليه فإنّ المطلوب من المعارضة كثمن لذلك التزامها الهدنة التي ستبدأ مساء ١٢ أيلول، وفك ارتباطها العسكري بجبهة «فتح الشام» (النصرة) التي قرّر التوافق الأميركي - الروسي أنها ارهابية مثل «داعش»، ولن تشملها الهدنة.

في المقابل، تقرأ موسكو غياب بند طرح بقاء الأسد في اتفاقها مع واشنطن على أنه إنجاز تقدّمه الى دمشق لإقناعها بالسير معها في مهمة تطبيقه والتزام الهدنة في حلب أولاً، ثمّ في سائر البلاد، وأيضاً تلبية شروط الحلّ السياسي الذي سيحمل أفكاره المفنّدة الى سوريا المبعوث الأممي ستيفان دو ميستورا في ٢٤ الشهر الجاري.

المعادلة الثانية، تحدّد أنّ الأولويّة الحاسمة راهناً هي لفصل المعارضة السورية المسلّحة عن «النصرة» خصوصاً، واستمرار الحرب عليها وعلى «داعش» معاً، وهذا يقضي ألّا يشمل الفيتو الأميركي لجهة حظر طلعات سلاح الجو السوري القتالية، الطلعات التي تُشنّ ضد مناطق تتمركز فيها قوات لجبهة «فتح الشام»، أي في جنوب حلب خصوصاً.

وستقع على أميركا عملياً بموجب التزامها هذا الجزء من الاتفاق، مسؤولية إجبار كلّ فصائل المعارضة السورية المسلّحة على الابتعاد عن «النصرة» وفرز نفسها ميدانياً عنها، وذلك حتى يتسنّى لسلاح الجوّ الروسي والأميركي الاستمرار في تدميرها من دون المَسّ بالهدنة.

أحد الأسئلة التي تشكل تحدِّياً لنجاح الاتفاقية هو هل تنجح واشنطن في هذه المهمة؟ وكيف سيتمّ ضمان ألّا تلجأ «النصرة» ضمن عملية تكتيكية كبرى تنسّقها مع المعارضات الأخرى المسلّحة، للاختباء وراء يافطات فصائل المعارضة المقبولة أميركياً وروسياً؟

واضح ممّا تسرّب من بنود الاتفاق الأميركي - الروسي أنّ الطرفين سيحاولان معالجة هذا الاحتمال، من خلال استعمال الطرق التي ستُستخدَم لتمرير المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصَرة، بوصفها لها مهمّتين: الأولى معلنة في الاتفاقية وهي إيصال المساعدات عبرها؛ والثانية غير معلنة وهي استخدامها ليتمّ عبرها انسحاب المسلّحين من غير «النصرة» من هذه المناطق لتحديدها لاحقاً كمناطق لا تشملها الهدنة، ما يسمح باستمرار الحرب الروسية الأميركية المشترَكة عليها.

وأبرز هذه المناطق التي سيتمّ فرز مسلّحي «النصرة» فيها، ستكون بداية مدينة حلب التي ستبدأ فيها مساءَ يوم ١٢ أيلول هدنة الـ48 ساعة، التي ستختبر خلالها واشنطن نوايا جدّية روسيا.

وهذه الجوانب الخفية للتوافق الروسي الأميركي، هي التي تفسّر لماذا تتوجّس جبهة «فتح الشام» وطيف واسع من المعارضة السورية، من إمكانية أن تؤدّي الاتفاقية الى إشعال فتنة بين فصائل المعارضة، خصوصاً تلك المتحالفة ضمن «جيش الفتح» المتمركز أساساً في حلب وريفها وأيضاً في إدلب ومنطقتها.

ثالثاً، تضمن الاتفاقية الأميركية الروسية إحدى أهم مصالح إيران، لأنّ بنودها تجاوزت محاولات إقليمية ومن المعارضة السورية، لجعل المقايضة الأميركية الروسية على رأس «جبهة النصرة» مقابل رأس «حزب الله» في سوريا، وليس في مقابل وقف طلعات الجوّ السورية وإيصال المساعدات للمناطق المحاصرة فقط، (الخ).

ومن خلال تسريبات ديبلوماسية لمسؤولين كبار في الخارجية الأميركية عقّبوا على هذه النقطة وحول التعريف الدقيق لموقع مصير الأسد في الاتفاقية، اتّضح أنّ واشنطن ردّت بالتالي: بخصوص الطلبات التي أرادت إدراج ميليشيات شيعية ضمن قائمة الفصائل التي تستهدفها الطائرات الأميركية الروسية، اعتبرت أميركا «أنه سبق لها واتخذت إجراءات ضد «حزب الله» في مرات سابقة، ولكنّ جوهر الاتفاق الحالي يركّز على منع النظام من استهداف المدنيين وجعل فصائل المعارضة تبتعد عن فتح الشام».

وحول الطلب الثاني الخاص باستيضاح موقع مصير الأسد في الاتفاقية، ردّت واشنطن بأنّ «الخطوة الأولى فيها ستتمحور حول ترسيخ الهدنة ناقص «داعش» و«النصرة»، وإيصال المساعدات الإنسانية وإنعاش مفاوضات جنيف. ولا يمكن التفاوض على مصير الأسد في الوقت الراهن وفي وقت تستمرّ عمليات قصف المدنيين».

رابعاً - تتمثل النقطة الأبرز في الاتفاقية، برغبة واشنطن «تشكيل مركز روسي أميركي مشترَك لمحاربة «داعش» و«النصرة»». وكان هذا المقترَح تبلور في أميركا منذ نحو شهرين، ولكنّ النقاش حوله بين الخارجية الأميركية من جهة والمستويَين الأمني والاستخباري الأميركي (البنتاغون والسي آي اي) من جهة ثانية، أدّى الى تعقيدات في وجه إقدام البيت الأبيض على طرحه على موسكو رسمياً.

لقد شكك البنتاغون ومعه «سي آي اي» في جدّية التزام موسكو خوض «حرب صادقة» مع أميركا ضد الإرهاب في سوريا. ومراعاةً لهذه الشكوك حاول كيري صياغة «اتفاق اختباري» مع موسكو، يمكن من خلاله جسّ نبض جدّية الروس في تنفيذ الوعود التي يقطعونها للأميركيين، وذلك بشكلٍ عمَلي وليس فقط نظرياً.

وتقصّد كيري تسمية عرضه آنذاك على لافروف بـ»الصفقة القاسية» على موسكو، في محاولة ليظهر للمستوى العسكري والاستخباري في أميركا أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما تحاول الحصول على ضمانات عمَلية من الرئيس فلاديمير بوتين حول جدّية التزامه أيّ اتفاق يبرمه مع واشنطن.

وبالفعل تمّت خلال الاسبوع ما قبل الاخير مفاتحة الروس في مفاوضات فيينا وأيضاً في مفاوضات جرت بالصين، بتفاصيل عرض «الصفقة الصعبة»، وكان قوامها إرساء هدنة في حلب تراعي إيصال مساعدات إنسانية لمناطق المعارضة المحاصرة في حلب مع ضمان عدم تفتيشها، إضافة الى مجموعة قيود أخرى بينها وقف نشاط سلاح الجوّ السوري.

وأصرّ كيري في تلك المفاوضات على أنّ واشنطن لن تضع على الطاولة مقترحها لإنشاء تنسيق عسكري واستخباري مع روسيا، يصل لمستوى الشراكة بينهما في سوريا، إلّا بعد أن تنفّذ موسكو التزاماتها حيال إرساء هدنة حلب، وذلك على نحوٍ يؤكد عملياً لواشنطن جدّية نواياها.

ورغم أنّ عرض «الصفقة القاسية» قدّم لموسكو هدية إعلان «النصرة» طرفاً إرهابياً، لكنها رفضته جزئياً، على اعتبار أنها ترغب في أن يكون الاتفاق سلة متكاملة ولا يتضمّن مراحل تجريبية.

ويبدو واضحاً الآن أنّ كيري لم يستطع تقسيم المفاوضات مع الروس الى مرحلتين: هدنة في حلب تكون اختباراً لجدّية روسيا. وبعد نجاح الروس في اختبار هدنة حلب تُدشّن المرحلة الثانية من اتفاقهما الذي يتضمّن إطلاق خريطة طريق لوقف النار في كلّ سوريا والبدء بالحلّ السياسي. على أن تتزامن المرحلة الثانية مع إعلان اتفاقهما على بدء مرحلة التعاون الاستراتيجي في سوريا ضد الإرهاب.

يُلاحَظ أنّ الاتفاقية التي أُبرمت بين كيري ولافروف، جمعت المراحل كلها في سلة واحدة، ويتضمّن هذا الامر نوعاً من التراجع الأميركي لمصلحة وجهة نظر الروس. وهو الأمر الذي يفسّر أيضاً لماذا وصفت الهيئة العليا للمعارضة السورية «الاتفاقية» بأنها حصلت في لحظة ضعف أوباما.

أما مضمون مقترح الشراكة العسكرية في سوريا الذي طرحه كيري على الروس، (كانت «الجمهورية» عرضت لتفاصيله الاسبوع الماضي)؛ فيتضمّن النقاط الآتية:

١- تبادل معلومات استخبارية لتحديد أهداف القيادة ومعسكرات التدريب وخطوط الإمداد ومقرات «جبهة فتح الشام»، و»قد» تنفّذ طائرات أميركية أو روسية ضربات جوّية على تلك الأهداف.

٢- تنسيق موسع بين الولايات المتحدة وروسيا يمكن أن يتمّ من خلال مجموعة عمل مشتركة يكون مقرّها في محيط العاصمة الأردنية عمان.

٣- تقيم كلّ من الولايات المتحدة وروسيا مقراً منفصلاً للعمليات ومكتباً للتنسيق ترسل كلّ منهما إليه مسؤولين كباراً ورجال مخابرات وخبراء في تخطيط الضربات والاستهداف، حيث يتّخذ الجانبان القرار في شأن موعد بدء الضربات الجوّية المتزامنة ضد أهداف «جبهة النصرة»، في مقابل أن تتوقف كلّ الأنشطة العسكرية الجوّية السورية في مناطق محدَّدة يتمّ الاتفاق عليها ما عدا الأغراض غير القتالية.