عندما تعرض ميليشيا “العصائب” التي يقودها قيس الخزعلي، على حكومة حزب الدعوة، برئاسة حيدر العبادي، خطّة لتأمين مناطق حزام بغداد، في وقت يعاني فيه سكان هذه المناطق من تزايد أعمال الخطف والقتل والسلب، فإن هذا يعني أن فصائل الحشد تريد أن تتحول إلى قوات عسكرية وأمنية بغطاء رسمي، يتيح لها أن تبسط سيطرتها ليس على العاصمة فحسب، وإنما على جميع منافذها ومخارجها، وتعزل القوات النظامية من جيش وشرطة وأجهزة حكومية وتحيل ضباطها وأفرادها على التقاعد.
وعندما يفاخر زعيم ميليشيا “بدر”، الملا ببدلة عسكرية، هادي العامري، بأن القوات التابعة لميليشياته باتت تتفوق على الجيش العراقي في العدد والعدة، فهذا يعني ببساطة أن الميليشيات الشيعية تتعاظم وتتسع، ولا يُستبعد أن تصبح في المستقبل المنظور، القوة المهيمنة على مفاصل البلاد وصاحبة القرار، وتحوّل الحكومة القائمة إلى مجرد مقهى يجتمع فيه العبادي ووزراؤه يثرثرون ويشربون الشاي والقهوة.
وعندما تعلن ميليشيا “النجباء” التي يقضي رئيسها أكرم الكعبي، ثلاثة أسابيع من كل شهر في طهران وقم، إرسال ألف من عناصرها إلى حلب لمساندة قوات بشار الأسد ورفع معنوياتها بعد الهزائم التي لحقت بها خلال الشهرين الماضيين، فإن ذلك لا يحتاج إلى عناء لفهم أن دور فصائل الحشد الشعبي بدأ يتجاوز المحلية العراقية ويقفز إلى دائرة أوسع في المنطقة العربية، بدءا من سوريا، وصولا إلى السعودية وبلدان الخليج العربي.
الأمثلة لا تعد ولا تحصى، عن تمدد الحشد الشعبي في المحافظات العربية ذات الأغلبية السكانية السنية من محافظة ديالى شرقا، إلى الأنبار وشمال بابل غربا، وإلى الموصل وكركوك شمالا، فإن الهدف من هذا التمدد يصبح مفهوما ويتركز في تطبيق إستراتيجية واضحة المعالم والأغراض تتضمن احتواء ثلثي مساحة العراق ومصادرة خيارات سكانها والتحكم بمصيرهم، وإلا ما معنى إصرار الميليشيات الشيعية على المشاركة في عمليات تحرير القيارة والشرقاط والحويجة والموصل، رغم إجماع سكانها، بمن فيهم النازحون منها، على رفض هذه المشاركة المريبة؟
إن تحويل الميليشيات الشيعية في العراق إلى حرس (ثوري) على غرار الحرس الإيراني، بات أمرا متوقعا في أي لحظة، والمسألة برمتها تتعلق بظروف وتوقيت الإعلان الرسمي لهذا التحول رسميا، وقد لا يتجاوز نهاية العام الحالي، ويتردد في الأوساط السياسية ببغداد، أن الجنرال قاسم سليماني الذي أشرف على عقد اجتماع عاجل للتحالف الوطني (الشيعي) مساء الأحد الماضي، أقنع الأمين العام لحزب الدعوة ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، بالموافقة على اختيار رئيس المجلس الأعلى عمار الحكيم رئيسا له وسحب اعتراضه المعلن عليه لعامين متتاليين، جاء ذلك بعد أن أسر الجنرال الإيراني إلى المجتمعين، بأن “حاجي أبوإسراء” تنتظره مهمة أكبر ورئاسة أعظم قريبا، وفهم المجتمعون انه يقصد قيادة الحشد الشعبي.
وتصوروا كيف سيعمل رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي، وفوقه رئيس حزبه والعشرات من الميليشيات تحت إمرته؟ بالتأكيد فإن سطوة المالكي ستكون هي السائدة وسلطته هي القائدة وتصبح الحكومة ووزاراتها رهن إشارته.
قبل ثلاثة أشهر توسط شيوخ ووجهاء قضاء جرف الصخر في شمال بابل وعدد منهم حارب تنظيم القاعدة وتصدى لمسلحي داعش، عبر سياسيين شيعة، لإعادة نازحي القضاء بعد تحريره منذ أكثر من عام، وذهبوا إلى المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني لمناشدته في إصدار فتوى تسمح لنازحي المنطقة بالعودة إلى ديارهم، فاعتذر مكتبه عن استقبالهم لمرضه – كما قيل لهم – وأُبلغوا أن سماحته لا يتدخل في قضايا إدارية، ونصحوهم بمراجعة قيادة الحشد.
وتوجه وفد منهم إلى قائد الحشد الشعبي (الرسمي) فالح الفياض وعرضوا الأمر عليه، وقد تفهم معاناة نازحي جرف الصخر، ولكنه هز رأسه بأن هذه القضية بالذات ليست من اختصاصه وأحالهم إلى نائبه أبومهدي المهندس باعتباره القائد الميداني للحشد الذي استقبل ثلاثة من أعضاء الوفد يرتبطون بعلاقات طيبة مع الحكومة والتنظيمات الشيعية، ولمح لهم على استحياء، أن قرار إعادة نازحي مناطق شمال بابل، ليس من صلاحيات الحكومة العراقية وليس من سلطات قيادة الحشد الشعبي.. وافهموها!
وبالعودة إلى بيان ميليشيا العصائب في تأمين مناطق حزام بغداد، لاحظوا نبرة التحدي عندما يتهم معاون رئيسها الخزعلي ويدعى صفاء الساعدي، الجيش العراقي وقيادة عمليات بغداد العسكرية بالعجز عن بسط الأمن في هذه المناطق، مؤكدا أنّ ميليشياته لديها خطة لتأمينها والسيطرة عليها، مشيرا أيضا إلى أنّ فصائل الحشد الشعبي لديها عمق في جميع المناطق، وبإمكانها التحرك فيها بدقة.
ومناطق حزام بغداد لمن لا يعرفها، هي عبارة عن نصف دائرة تحيط بالعاصمة من شمالها وغربها وجنوبها، وتضم العشرات من المدن والبلدات أبرزها المدائن وأبوغريب والمحمودية واليوسفية واللطيفية والتاجي والطارمية والمشاهدة والراشدية ويسكنها قرابة نصف سكان بغداد غالبيتهم من السنة العرب، وهي تعرضت ولا تزال إلى حملات عسكرية وميليشياوية لطرد سكانها منها، وإجراءات حظر التجوال فيها لم تتوقف يوما واحدا.
لقد بات واضحا أن العراق مقبل على كارثة جديدة تضاف إلى كوارثه المتلاحقة عندما تتسيد ميليشيات الحشد المشهد السياسي، وهي معززة بالأسلحة الثقيلة وبالدعم الإيراني بعد انحسار الجيش والشرطة، وفي ظل حكومة لا تهش ولا تبش وليس بيدها القرار.
إن مأساة مروعة ستحل بالعراق، لا شك فيها، في ظل تغييب القانون وصعود قادة الحشد الشعبي وتحولهم إلى قيادة متنفذة لديها سلطات وصلاحيات واسعة تتحول تدريجيا إلى حكومة ولي الفقيه الإيراني بالنيابة.
هارون محمد : العرب