يُرصَد في أجواء رئيس مجلس النواب نبيه بري بعد تعليق الحوار الوطني الكثير من المرارة والقليل القليل من الأمل في إمكان تجاوز الازمة بملفاتها المختلفة والمعقدة. فكانون الاول، لا كانون الثاني، في حدّه الحدُّ بين الجدّ والمدّ، الجدّ هو في إيجاد الحل، والمدّ هو في إطالة أكثر عمر الازمة، «فإمّا يكون اتفاق على حل وإلّا لن يعود في إمكاننا الاتفاق على شيء».
«الدولة الما» التي لم يسمها برّي بالإسم وبات معوّلاً عليها ان تتدخل لانتشال لبنان من أزمته عبر جمع الافرقاء السياسيين على اتفاق لإنجاز الاستحقاق الدستوري ما تزال غير معلومة، فالولايات المتحدة الاميركية منشغلة بانتخاباتها الرئاسية، وفرنسا «عاصمة اوروبا» مشغولة بانتخاباتها ايضاً بعد ان حاولت وفشلت، والمملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية المنغمستان في الازمات الاقليمية ويعوّل عادة على توافقهما لإنجاز حل لبناني، تدور بينهما هذه الايام حرب سياسية شعواء تترك انعكاساتها السلبية على لبنان وكل ساحات المنطقة.
امّا روسيا فهي في قمة الانشغال بالقضايا الاقليمية من اوكرانيا الى سوريا وما بينهما. وتركيا المنشغلة بتطويق ذيول الانقلاب الفاشل بورشة تطهير لجماعة فتح الله غولن، تحاول نجدة الادارة الاميركية الديموقراطية بإنجاز ما على الساحة السورية لِتُسَيّله واشنطن نصراً في السباق الى البيت الابيض ضد الجمهوريين، وفي الوقت نفسه تعمل انقرة لدرء خطر «الدويلة الكردية» عليها.
أما مصر «ام العرب» فقد جرّبت خطها من خلال مهمة وزير خارجيتها سامح شكري الاخيرة في بيروت، ولكنها لم توفّق وعاد شكري الى القاهرة ادراج الرياح.
وفي انتظار تدخل هذه «الدولة الما» فإنّ الامل يبقى معولاً على صحوة لدى الافرقاء السياسيين تدفعهم للعودة الى طاولة الحوار بروحية جديدة تمكن الحوار من إنتاج الحلول المطلوبة. وهذه الروحية يشترطها بري ليبادر الى رعاية هذا الحوار مجدداً، ويقول في هذا الصدد: «في المرة السابقة ذهبتُ بنفسي الى الافرقاء واذا ارادوا الحوار هذه المرة عليهم هم ان يأتوا إليّ».
ويعتقد بري جازماً خلال أحاديثه امام زواره أنّ ما حصل على طاولة الحوار بفعل مداخلة رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل «لم يكن مقصوداً به تعطيل الحوار في حد ذاته، وانما كان لاستهداف الحكومة».
ويكرر القول: «انني لن أدعو الى جلسة حوارية جديدة من اجل الشكل، بل على الافرقاء ان يراجعوا حساباتهم، فإذا غَيّروا أهلا وسهلاً وعليهم هم ان يأتوا اليّ، في المرة السابقة ذهبت انا اليهم من خلال الحوار، فما نفع الحوار طالما اننا نتفق على شيء اليوم ثم يغيّرون آراءهم في اليوم التالي».
لكنّ أخطر ما ذهب اليه بري تَمثّل بقوله «انّ الوقت بات داهماً، فإذا لم نتمكن من التوصل الى حل ما من الآن وحتى كانون الاول، وليس كانون الثاني، فلن يعود في امكاننا القيام بأي شيء، لأنّ البلد كله سيدخل نهاية السنة في دوّامة الانتخابات النيابية، وستتم هذه الانتخابات على اساس قانون الستين، وحتى على قانون الثلاثين، اذا لم يكن هناك قانون انتخابي آخر».
وفي هذا السياق يردّ على ما بدأ يُشيّعه البعض عن تمديد جديد لمجلس النواب، فيقول: «الانتخابات حتمية ولا تمديد للمجلس النيابي ولو ليوم واحد، إنّ التمديد مستحيل». ويستدرك «ربما بإجراء الانتخابات النيابية نَتوصّل الى حل أولاً بإجرائها ثم انتخاب هيئة مكتب المجلس المنتخب ثم انتخاب رئيس الجمهورية، ولكن هذا يشترط التوافق المسبق».
ويتخوّف بري من تعطيل مجلس الوزراء بعد التعطيل الذي يعيشه المجلس النيابي فيعلّق على ما حصل في مجلس الوزراء أمس من «بروفة» للتعطيل بقوله: «يبدو اننا سنعتاد طويلاً على هذا الامر». ثم يضيف معلقاً على تحذير البعض من توقيع المراسيم: «في هذه الحال كأنك تطلب من الوزراء ان لا يحضروا جلسات المجلس».
على انّ كلام بري بهذه «الشرطية» عن الحوار يكشف مدى المأزق الذي وصل اليه الواقع السياسي الداخلي، بل يكشف انّ الحوار بين قادة الكتل النيابية لم يُعلّق بل توقّف في انتظار تطورات او معطيات ما تعيده الى الحياة. لكن ّهذه المعطيات اذا لم تكن متينة فإنها لن تَفي بالغرض.
وفي ضوء تعويل البعض على تدخل اميركي في لحظة معينة قبَيل انتخابات الرئاسة الاميركية لتأمين انتخاب رئيس لبناني توافقي بسبب تعثّر حظوظ بعض «المرشحين الاقوياء» المطروحين، يقول خبير في السياسة الاميركية انّ الاميركيين لا يهتمّون عادة بشخص المرشح او المرشحين الذين سينتخب أحدهم رئيساً للجمهورية وإنما يهتمون في الدرجة الاولى باستقرار لبنان، فاذا شعروا الآن او في اي وقت لاحق انّ هذا الاستقرار مهدد يبدأون عندها، هم وغيرهم، حملة ضغوط لإزالة هذا التهديد، ولكن حتى الآن لا دلائل لدى الادارة الاميركية تشير الى انّ الاستقرار اللبناني مهدد او سيتهدد.
ولذلك فإنّ واشنطن لا تمارس اي ضغوط حالياً لتأمين انتخاب رئيس، ولكنها عندما تقرر التدخل في الاستحقاق الرئاسي اللبناني فإنها تأخذ بالمرشح الذي يشكّل القاسم المشترك بين الافرقاء السياسيين والاقل ضرراً بمصالحها ومصالح البلد وتبتعد عن الأخذ بأيّ مرشح يشكل عبئاً.
ويرى هذا الخبير انه بعد كل ما وصل اليه لبنان حتى الآن من تأزم سياسي لا يبدو انّ الاميركيين متحمّسون لأيّ تدخل، طالما انهم يرون انّ الاستقرار غير مهدد.
ولذلك، نراهم يركزون على القضايا العسكرية المتمثلة بدعم الجيش ومساندته لأنه يؤمن الاستقرار، ولا يبدون حماسة لتدخّل من أجل حل الازمة السياسية، خصوصاً انّ الرئيس الاميركي باراك اوباما الذي سيغادر البيت الابيض في كانون الثاني المقبل «ليس مقداماً في مسائل من هذا النوع».