بعد أكثر من أربع سنوات من هجمات النظام وحلفائه المستمرة على مدينة داريا في ريف دمشق، وصمود أسطوري لمقاتلي المعارضة المسلحة في هذه البلدة، استنفذوا معه كل وسائل الدفاع والثبات، استطاع النظام، بعد حصار محكم وقصف جوي ومدفعي، أن يفرض تسويةً على قوى الثورة في المدينة، أفضت إلى انسحاب كامل للجيش الحر والمدنيين منها.
قصة الحرية والثورة
مع بدايات الثورة السورية في عام 2011، تصدّرت داريا مشهد الحراك السلمي، إذ قادت مجموعة من الشباب مظاهر الحراك المدني في المدينة، لتصبح نموذجًا يحتذى في العمل المدني وانضباطه. وقد نشأت في داريا في ذلك الوقت تنسيقيتان ثوريتان، توحدتا لاحقًا لتشكيل المجلس المحلي لمدينة داريا. وتزامن ذلك مع الانتقال إلى مرحلة الحراك العسكري، في ردة فعلٍ على الانتهاكات التي ارتكبها النظام بحق أهل داريا.
شهدت المدينة عدة اقتحامات لقوات النظام، ارتكبت خلالها مجازر عديدة، انتهت بمجزرة داريا الكبرى في 25 أغسطس/ آب 2012، وراح ضحيتها العشرات، غالبيتهم من النساء والأطفال. قامت بعدها فصائل ثورية مكونة من أبناء مدينة داريا بالسيطرة عليها، لمنع النظام من تكرار مسلسل الاقتحامات، فأطبق النظام حصاره على المدينة، وراح يحاول اقتحامها من حين إلى آخر.
وتميز الحراك العسكري والمدني في مدينة داريا بما يلي:
• الدور الريادي للمجلس المحلي لمدينة داريا في إدارة المدينة إعلاميًا وسياسيًا وإداريًا وخدميًا. وتبلور هذا الدور نتيجة التنسيق الكبير بين النشاطين العسكري والمدني في البلدة، وقد أضحى من أهم المجالس الفرعية التابعة لمحافظة ريف دمشق، إذ عمل على إدارة مصالح حوالي 5000 مدني (هم من تبقى من سكان داريا)، كما احتضن المجلس المحلي لحي كفرسوسة الدمشقي المجاور، والمعني بإدارة شؤون أسر مقاتلي الحي الموجودين في داريا ورعايتها، إضافة إلى ما يزيد عن 50 عائلة نازحة من الحي إلى داريا.
• اتساق العمل بين المجلس المحلي والقوى العسكرية المحلية، وإصرارهم في الدفاع عن المدينة. كما تم الامتناع عن القيام بعمليات انتقامية ذات بعد طائفي، أو مناطقي، خارج حدود المدينة، على الرغم من وجود مناطق كثيرة مؤيدة للنظام بالقرب من المدينة، وضمن مرمى نيران هذه القوى العسكرية.
• محافظة المدينة على اصطفافها ضمن الإطار الوطني، وغياب الفكر العابر للحدود، بحكم عدم وجود حاضنة سياسية واجتماعية لهذا الفكر داخل داريا.
• التواصل والتنسيق مع باقي فصائل الثورة في الخطوط العامة، من خلال تابعية لوائي سعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو للاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، وتوقيع لواء شهداء الإسلام على ميثاق الجبهة الجنوبية بتاريخ 14 فبراير/ شباط 2014.
• ارتباط لواء شهداء الإسلام شكليًا بغرفة العمليات العسكرية المشتركة في عمّان في الأردن (الموك)، واستقلاليته التامة عنها في القرار والتخطيط والتنفيذ، فضلًا عن عدم تلقي لواء شهداء الإسلام أي دعم مادي أو عسكري من الموك.
التدخل الروسي
"تحملت داريا، منذ التدخل العسكري الروسي، القسط الأوفر من حملات النظام العسكرية في جنوب سورية" جنوب سورية، فيما كثف طيران النظام السوري غاراته على المدينة، فقد أسقط، بحسب تقديرات المجلس المحلي، لداريا أكثر من 9000 برميل متفجر على المدينة، حتى تاريخ 23 أغسطس/ آب 2016، راح ضحيتها مئات من المدنيين، إضافة إلى تدمير مرافق عديدة مهمة في المدينة، وآخرها المشفى الميداني الوحيد فيها. ومع كل ذلك، لم يتمكّن النظام من تحقيق تقدم داخل المدينة إلّا في الشهور الأخيرة، بسبب الدعم الجوي والاستخباراتي الروسي، ليتمكّن مطلع عام 2016 من قطع الاتصال الجغرافي الحيوي بين داريا وجارتها المعضمية الداخلة في هدنةٍ مع النظام، وهو الاتصال الذي كان يؤمّن لمدينة داريا الحدود الدنيا من مستلزمات العيش والصمود.
حاول النظام دون نجاح استثناء داريا من اتفاق التهدئة الذي توصلت إليه روسيا والولايات المتحدة، نهاية فبراير/ شباط 2016، تمهيدًا لانطلاق محادثات جنيف 3، بحجة وجود جبهة النصرة في المدينة، لكنّ النظام نجح في منع وصول أي مساعدات إنسانية إلى المدينة، ولم تتمكّن الأمم المتحدة إلّا من إدخال قافلة مساعدات واحدة إلى داريا خلال التهدئة، بعد ثلاث سنوات وعشرة أشهر من الحصار.
ومع تعثّر محادثات جنيف 3، ثمّ انهيار التهدئة بالتدريج، تجدّد الهجوم على داريا بصورة أشد ضراوةً، وتقلصت مساحة الأراضي التي يسيطر عليها ثوار داريا إلى حوالي 1.5 كلم مربع، وأدى سقوط معظم الأراضي الزراعية التي تمثّل مصدر رزق المدنيين المتبقين في داريا، مع لجوء النظام إلى استخدام النابالم الحارق في قصف المدينة، إلى الضغط على فصائل المقاومة، للتفاوض لإيجاد حل يضمن خروجًا آمنًا للمدنيين.
شكّل المجلس المحلي لمدينة داريا ولواء شهداء الإٍسلام ولواء المقداد بن عمرو لجنة للتفاوض
مع وفد النظام. وقد طلب النظام استسلامًا كاملًا، يشمل رفع الراية البيضاء وتسليم كل السلاح، وتسوية أوضاع المنشقين والسماح بخروج المقاتلين إلى إدلب. رفض الثوار مطالب النظام، وأصرّوا على اتفاق خروجٍ لائق للمدنيين والمقاتلين، وعدم تجزئة ملف المقاتلين في المدينة، ورفض تسليم السلاح الفردي والاقتصار على تسليم السلاح الثقيل والمتوسط. في المحصلة، تم الاتفاق على خروج المقاتلين الذين رفضوا تسوية أوضاعهم إلى إدلب، ونقل المدنيين إلى منطقتي حرجلة وقدسيا في ريف دمشق. كما تضمن الاتفاق بنودًا متعلقة بالإفراج عن النساء والأطفال، والكشف عن مصير المعتقلين، وتسليم جثث الشهداء، وتمديد الاتفاق، ليشمل مقاتلي داريا وأسرهم الموجودين في مدينة معضميه الشام، وهو ما تم تنفيذه أخيراً. وطالب النظام أن يتم تنفيذ بنود الاتفاق تحت إشراف الهلال الأحمر السوري، في محاولةٍ، على ما يبدو، لقطع الطريق على أي رغبةٍ دوليةٍ في الإشراف على تنفيذ الاتفاق. وكان المجلس المحلي لداريا أرسل إلى المبعوث الأممي الخاص بسورية، ستيفان ديمستورا، يطالب بإشراف الأمم المتحدة على تنفيذ الاتفاق، إلّا أن الأخيرة اكتفت بإرسال فريق للمراقبة.
إنهاء أسطورة داريا
لم يكن الموقع الإستراتيجي المهم لداريا الدافع الوحيد لدى النظام لإنهاء تمرد المدينة عليه بأي ثمن، بل إنّ الأثمان الباهظة التي دفعها النظام لإخضاع المدينة واستعصائها على قوات النخبة لديه وقوات حلفائه بالتوازي مع تزايد الانكسارات التي مني بها النظام خلال السنتين الأخيرتين، خصوصاً في الشمال السوري، جعلت من القضاء على نموذج داريا هدفًا إستراتيجيًا من شأنه إحراز نصر معنوي لقواته وحلفائها، وهزيمة معنوية للمخيلة الثورية التي حولت داريا إلى واحدةٍ من أيقونات الثورة. وقد ساهم هدوء جبهات جنوب سورية، وحالة الاقتتال الداخلي التي شهدتها الغوطة الشرقية، إضافةً إلى استمرار حالة الهدن المحلية في جوار داريا، في تمكين النظام من تحقيق أهدافه.
وعلى الفور، سارع النظام إلى استغلال انتهاء الصراع في داريا، للالتفاف على شروط الهدن
التي وقعها مع مناطق ثائرة عليه، والتوجه نحو إخضاعها كليًا لسيطرته. وقد عرض النية ظام إلغاء الهدنة مع مدينة المعضمية، وعرض تسوية على أهلها على غرار تسوية داريا، إنما بشروطٍ أقسى تحت طائلة استهداف المدينة، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، عندما قال إنّ مركز حميميم "أبلغنا أنّ ثمة مناطق أخرى في سورية مهتمة بتكرار هذه التجربة من خلال وساطة روسيا الفدرالية". إضافة إلى ذلك، لجأ النظام إلى تصعيد حملاته العسكرية على حي الوعر غرب مدينة حمص، في محاولة لإخضاع هذا الحي وإجباره على القبول بشروطه.
ويدل إصرار النظام على خروج مقاتلي داريا إلى إدلب على رغبته الحثيثة في إنهاء وجود قوى الثوار في الجيوب المحيطة بالعاصمة، ودفعها بعيدًا نحو الشمال السوري، وبما يحقّق رؤية النظام، المتمثلة باعتماد خيار "سورية المفيدة" مخرجًا للمأزق الذي تسببت به خسارته نسبة كبيرة من الأراضي التي كانت تحت سيطرته.
خاتمة
في ظل تقهقر قواته في مناطق مختلفة خلال الفترة الأخيرة (ريف حلب الجنوبي وريف حماة الشمالي خصوصاً)، يسعى النظام إلى القضاء على الجيوب التي تسيطر عليها المعارضة حول دمشق. وستكون الغوطة الشرقية الهدف الأصعب له في المرحلة المقبلة. وبناء عليه، يتوقع أن تعمل الفصائل المسلحة في مختلف المناطق على تخفيف الضغط عن المناطق المحاصرة التي تشهد تصعيدًا من النظام، في إطار سياسة تهجير السكان من جيوب معارضة ضمن حدود ما بات يعرف بـ "سورية المفيدة"، وإفشال استراتيجية إعادة رسم ديموغرافيا هذه المناطق، بما يتلاءم مع هذا الهدف.