بين "نواة حزب الله" القيادية الأساسية، أو "مجتمعه النقيض" (استلهامًا لقراءة وضاح شرارة)، المحصّن خلف حدود الدوائر الأمنية والعسكرية والاجتماعية والإدراية المحيطة به، وبين البيئة اللبنانية والاجتماع اللبناني، علاقة تمرّ عبر الدوائر الخارجية التي تستر النواة، وتحكُمها (أي تحكم العلاقة) في حال البون المفترض بين الطرح الظاهر وبين العقيدة النواتية عند الولوج إلى السياسة اليومية، "أحكام الضرورة". وخطوات الحزب تجاه الموارنة، أو قُل "بعض الموارنة"، ذات الظاهر المطَمْئن والإيجابي أحيانًا، أوّل ما تُرَدّ إليه هو خانة المصلحة السياسية، كي لا يُقال إلى خانة التقيّة السياسية، إنْ كنّا سنأخذ بما قاله الحزب عن نفسه، وبما صرّح به قادته ومسؤولوه في زمنٍ مضى. وللكلام الذي مضى، مصداقية اللحظة ومصداقية ما بعدها، بمعنى أنّه تعبير حقيقي عن هذه "الظاهرة التاريخية" المسمّاة "حزب الله"، وهو الصادر في فترات حربٍ وتعبئة، عن "مجتمع قائم على الحرب والتعبئة" وعلى لسان قادة عقائديين مؤمنين بمشروعهم إلى ما بعد حدود الإيمان، وعن جماعة عملت على "استيلاد أمّتها" بشكل واعٍ ومُخطط له.
وهذا الكلام اليوم، ليس فِعلَ تذكّرٍ ولا نكءًا لجراح، بل هو غربلةٌ لرمادٍ يطوف على السطح، قد يكون الجمرُ كامنًا تحته، وقد لا يكون. ولا شكّ أن إشكاليات أراضي البطريركية المارونية في لاسا، وتعطيل "حزب الله" العملي لانتخابات رئاسة الجمهورية، هي من الظواهر المرتبطة بالمسألة، لكنها ليست الدافع وراء كتابة هذه الأسطر.
إن الالتباس الذي ساد ويسود العلاقة بين "حزب الله" والموارنة - أو قُل بين الطرح "الحزب اللّهي" المتكامل الأصيل وبين الطرح الماروني التاريخي والسياسي الأصيل - هو التباس متجذّر يتعلّق بمسائل ثلاث وثيقة الارتباط بعضها ببعض: الكيانية اللبنانية وعلاقة "حزب الله" بِـ "لبنان الموارنة" (أي لبنان كما يراه الموارنة) وبالتأريخ الماروني للبنان؛ المشروع الإسلامي الذي حمله ويحمله "حزب الله"؛ و"المحرومية" الشيعية كأداة لإحياء الثورة المستمرّة – رغم السلطان السياسي والسطوة العسكرية اللذين أمسيا بيد الحزب وبيئته – وكخطاب رُفع بوجه "الطائفة-الطبقة" المارونية و"كومبرادوريّتها".
نظرة مستمرة
في المسألة الأولى، أي الكيانية اللبنانية وعلاقة "حزب الله" بِـ "لبنان الموارنة" وبالتأريخ الماروني للبنان، لم تُخفِ قيادات الحزب في السابق نظرتها، ولو أنها تجهد اليوم لستر ما هو مستمرّ من هذه النظرة. فخطاب السيد حسن نصرالله في الثمانينيات لا يزال ماثلًا في الأذهان حين قال إنّ "جبيل وكسروان مناطق المسلمين وقد جاءها المسيحيون غزاة، وقد جاءت بهم الامبراطورية البيزنطية ليكونوا شوكة في خاصرة الأمة"، وفي هذا افتئات على التاريخ وعلى الوجود المسيحي في لبنان الذي سبق الفتوحات الإسلامية بزمن ليس بقليل، مع العلم أن الكلام عن "تاريخ شيعي" في لبنان ذي صيغة واضحة ومستقرّة لم يبدأ إلا بُعيد النصف الثاني من الألفية الثانية.
النظرة "الحزب اللهية" تلك، قد تكمن إعلاميًا، وتستتر وراء الحجب، ولكنها مستمرّة برغم كونها مجهولة للسواد الأعظم من اللبنانيين. وأحدث مثال عميق عليها، هو احتضان "حزب الله" للمؤرخ الشيعي سعدون حمادة، وإقامة ندوات في مراكز الحزب حول كتابه الأخير "تاريخ الشيعة في لبنان" (الصادر عام 2012 عن دار الخيال)، والذي ينقض فيه تأريخ البطريرك الدويهي لجبل لبنان ويعتبره رواية وهمية حول صورة الأمير الشوفي كحاكم حقيقي فريد على لبنان، وحول البناء الدرزي-الماروني المشترك للجبل وللبنان من بعده، وينتقد اعتماد النظام التربوي اللبناني هذه الرواية "الدويهية" في كتب التاريخ المدرسي.
وفي ما خصّ الميثاقية اللبنانية، والصيغة المتولّدة عن ائتلاف جماعات، حمل الحزب– وكل الطرح السياسي الشيعي بالإجمال– على "طائفية سياسية" كانت في البدء ضمانةً للمسلمين الآتين إلى دولة-أمة (لبنان الكبير) لم يعهدوها في تاريخهم وهم المنضوون تحت لواء السلطان-الخليفة زهاء أربعة قرون. هذا مع العلم أن حضور الشيعة، داخل نظام تعدّدي، كمجموعة تحظى بوجود وتمثيل سياسيين وكجماعة ذات هويّة قائمة بذاتها ومستقلّة عن باقي الفرق الإسلامية، بدأ أول ما بدأ في كل المنطقة العربية، في متصرّفية جبل لبنان، وعلى يد البطريرك الماروني (الذي كان له الرأي المؤثّر في مفاوضات بروتوكول المتصرفية). نقد النظام اللبناني هذا، تردّد على لسان شيعةٍ من غير حزب الله، ككلام الشيخ محمد مهدي شمس الدين مثلًا في مهرجان أقامته حركة "أمل" في النادي الحسيني لبلدة معركة بتاريخ 16/8/1987 حيث قال: "وليعلم الجميع أننا نرفض الإصلاح السياسي ونعتبره إعادة إنتاج لهذا النظام الشرير، وإن أطروحتنا هي أطروحة التغيير الكامل والانقلاب الشامل في هذا النظام ولهذا النظام، وعلى قاعدة الديموقراطية العددية القائمة على مبدأ الشورى". إلا أن الحزب يمثل استمرارًا تامًّا لهذه الطروحات، بمثالثته المستترة المطلب أحيانًا، والمقنّعة التنفيذ أحيانًا أخرى، وبالصيغ الانتخابية التي يسعى وراءها، وبمصادرة القرار الاستراتيجي وتغيير وجه لبنان وتحويله إلى "مجتمع حرب" دائم.
المشروع الاسلامي
أما في المسألة الثانية، والمتعلقة بالمشروع الإسلامي الذي حمله ويحمله حزب "الثورة الإسلامية في لبنان"، فهذه نقطة التباس أساسية في العلاقة مع الموارنة. فعلى لسان السيد نصرالله سمعنا أن "المشروع التوحيدي الأول والوحيد في هذا الكون هو مشروع الدولة الإسلامية"، وأنّ "مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنّى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحقّ الولي الفقيه". وهو القائل أيضًا "لا أبقى لحظة واحدة في أجهزة حزب الله لو لم يكن لديّ يقين وقطع في أن هذه الأجهزة تتصل عبر مراتب إلى الولي الفقيه القائد المبرئ للذمة الملزم قراره".
وفي خطاب قديم في الزرارية للشيخ أحمد طالب سمعنا عن النظام اللبناني وأهله قوله: "هذه الأصنام التي تتحرك يجب أن نحاربها بكل سلاحنا، يجب أن نعلن أمامهم أن الاصنام التي حطمها رسول الله تتجدّد اليوم فيهم... نعلن صراحة أن لاحكم إلا للإسلام ولا مقاومة إلا بالاسلام وعلينا مواجهة إسرائيل وأذنابها". أما السيد إبرهيم الأمين السيّد، وفي كلمة له بمناسبة اختتام أعمال المؤتمر السنوي للطلاب المسلمين في الخارج في آب 1987، قال "إن أي تسوية في الداخل تعيد الموارنة بأي نسبة إلى السلطة، وأي تسوية لأميركا وإسرائيل موقع فيها، هي تسوية ضد الإسلام والمسلمين". هذا المشروع الإسلامي وحده يكفي لإحلال الالتباس في العلاقة مع الموارنة، فماذا لو أضفنا إليه التزام الحزب العقائدي بأوامر وقرارات وفتاوي الولي الفقيه، والتي منها فتوى للخميني نصّت على أن "النظام اللبناني غير شرعي ومجرم" وتبعها فتوى من خامنئي (في 1986) قضت بـ "ضرورة تسلّم المسلمين الحكم في لبنان كونهم يشكّلون أكثرية الشعب"*؟
"المحرومية" الشيعية
وفي المسألة الثالثة، أي "المحرومية" الشيعية، فهي رُفعت كخطاب بوجه "الطائفة-الطبقة" المارونية و"كومبرادوريّتها"، ليس فقط استلهامًا لفكر مهدي عامل (حسن حمدان) بل لكونها أداةً أصيلة بيد "الحزب اللهيّين" لإحياء الثورة المستمرّة، رغم السلطان السياسي والسطوة العسكرية اللّذَين أمسيا بيد الحزب وبيئته، ولتحميل الموارنة مسؤولية الحرمان الذي طال الشيعة. خذ مثلًا ما ورد في نص البيان الختامي الصادر عن المؤتمر السنوي للطلاب المسلمين الذي ذكرناه أعلاه: "إن المعاناة الاقتصادية التي يعيشها الناس في لبنان،... عائدة إلى مساوئ النظام السياسي القائم، وتخبطه في أزمات ناشئة عن ارتهانه للنفوذ الأميركي-الصهيوني عبر فئة متصهينة متحكمة في رقاب الناس تجد في الضغط الاقتصادي وتجويع الشعب وسيلة لإضعاف شوكة المقاومين وإسقاط نهج المقاومة الإسلامية حتى يتسنى لها تمرير مشاريعها السياسية التي تحافظ على امتيازات المارونية-الصهيونية وتكرس هيمنة الصهاينة في هذا البلد وتحفظ أمنهم وتحقق أطماعهم في أرض جبل عامل ومياهه. إن حل هذه الأزمات وإنقاذ الشعب من ويلات هذاالنظام، لن يتمّا إلا بالاعتماد على نهج المقاومة الاسلامية في التعامل مع الصهاينة وعملائهم، وذلك من خلال حسم المعركة مع أخطار المارونية-الصهيونية حتى يتم إسقاطهم وتحرير البلاد من تسلطهم".
بين حزب الله والموارنة التباس من هذا الحجم، لا تكفيه لا أوراق تفاهم ولا طبع كتيّبات بعنوان "مريم سيّدة نساء العالمين" وتوزيعها في جوار بعلبك، لكي يجد علاجًا له. المسألة بحجم الكيان والتاريخ والوجود... المسألة بحجم معنى لبنان، وبحجم فحوى استمراره وجدواها... المسألة بحجم قيمة الحرية في هذا الشرق. وتعطيل رئاسة الجمهورية المعقودة على ماروني، وعدم الذهاب حتى لانتخاب الحليف "الذي لديه دين عند الحزب إلى يوم القيامة"، هي تفاصيل بسيطة.
هل يمكن لـ"حزب الله" ردم هذه الهوّة وتصحيح هذا الالتباس؟ وهل يمكن الكلام عن هذين الردم والتصحيح، قبل انفكاك "حزب الله" الفعلي عن مشروع تصدير الثورة؟ وهل يستطيع "حزب الله" فعلًا الانفكاك عن هذا المشروع؟
*من حواشي كتاب وضاح شرارة (دولة حزب الله): "أنظر تذكير السيد صادق الموسوي بالفتويين، تعليقًا على مؤتمر "حزب الله" في أيار 1993، في مقالة نشرتها الشراع في عدد 17 أيار 1993. وصادق الموسوي، الإيراني الأصل، هو جامع البيانات والآراء المؤيدة لإقامة "جمهورية إسلامية" بلبنان في الحال، ومن غير إرجاء، في مجلدين من 1300 صفحة".
أندرو حبيب