وجّه الرئيس امين الجميّل قبل يومين بعد لقائه الرئيس نبيه بري نداء لمنع العملية الإنتحارية التي يقودها البعض ووقف جرّ البلد الى الهاوية في ظل ما تشهده المنطقة من تطورات، محذّراً من الإستمرار في تعطيل الإستحقاق الرئاسي الذي انعكس شللاً في المؤسسات. وهو ما طرح السؤال: ما الذي يخشاه الجميّل وفي وجه من يصرخ ومن هو المقصود؟
إذا حكى الرئيس الجميّل شارحاً قصده بندائه الذي وجّهه امس الأول من عين التينة غداة تجميد أعمال «هيئة الحوار الوطني»، يقول: ببساطة انها صرخة «بوجه كل الذين يعطّلون مسيرة الدولة والمؤسسات الدستورية».
ففي الدولة، لمن لا يعرف، دستور وقانون ونظام من الواجب احترامها ومعها سيل من الأعراف والتقاليد التي احترمها اللبنانيون لعقود خَلت. فهم أجمعوا على انّ لها قوة ما يقول به الدستور والقانون وكل ما هو خارج هذه المفاهيم يعدّ خروجاً على مضامينها ويشكل انسياقاً الى الإنهيار عن قصد او غير قصد.
ويقول الرئيس الجميّل: إنني اؤكد بصفتي رجل قانون انّ الدستور يجرّم من يعطّله ويستغل ثغرة فيه لتعطيله بالكامل. فالدستور وضع ليكون في خدمة المؤسسات ومن اجل تحصين الوطن والدولة وتحقيق مصالح المواطنين.
واعتقادي انّ المشترع لم يتوقّع يوماً انه يمكن ان نصِل في لبنان الى مرحلة فيها رجال يدّعون قدرتهم على فهم الدستور وتفسيره بالشكل الذي يجريه البعض اليوم ويغلب فيها القوة القاهرة في تفسيره للمواد الدستورية، ويضرب بعرض الحائط ما يقول به الدستور من واجب الإلتزام به قانونيا وأخلاقيا ووجدانيا وبكل الوسائل التي تفرض هيبته بما يحصّنه لا بما يهدد مضمونه وما يقول به وتحقيق الغايات النبيلة التي وضع من اجلها، وليس للأخذ بفقرة او ثغرة من ثغراته التي لا بد من العثور عليها للإنقلاب عليه ونَسفه برمّته.
فبأيّ منطق يقبل البعض عند تفسيره للدستور، ان يبرّر منع التآم مجلس النواب بحرب النصاب لانتخاب رئيس من دون ان يرف له جفن؟ هذا قبل ان يدعي ويتباهى صراحة بتعطيله. وهو ما تكرر في 44 جلسة دعا اليها رئيس مجلس النواب منذ عامين ونصف وحتى اليوم. وما الفائدة التي يجنيها هذا البعض من شَل البلد وإلغاء نظامه والخروج على ما يقول به هذا الدستور وما نصّ عليه من مهل دستورية سبق بعضها نهاية ولاية الرئيس السابق للجمهورية؟
والأخطر يعتبر الرئيس الجميّل انّ المصلحة الوطنية باتت في آخر سلّم اولويات هذا البعض الذي يغالي في تفسير الدستور على غير ما نصّ عليه صراحة. ويزيد عندما يربط بين كل ما نص عليه من مهل بما يجري في الخارج ضماناً لولاءات خارجية لم تعد خافية على أحد، وهي التي وضعت الإستحقاق في ميزان المعادلات الإقليمية والدولية ليكون ورقة من اوراق التفاوض حول قضايا لا تعني اللبنانيين مهما غالت فئة منهم لتقنعنا انها تعمل بوَحيها من أجل لبنان، ومصلحة لبنان ومستقبله في هذه المنطقة من العالم في ما نرى انّ كل ما يجري يشكل خروجاً على هذه المصلحة وتهديداً
مباشراً للكيان والدولة والمؤسسات.
وإذا قيل للرئيس الجميل لماذا اخترت منصّة عين التينة لإطلاق هذا النداء التحذيري وهذه الصرخة؟ يوضح: أطلقتها من منبر عين التينة بشكل مقصود، وغداة ما آلت اليه اعمال هيئة الحوار وما نقل الينا من نقاش يعيدنا عقوداً من الزمن الى الوراء.
والى مرحلة كنّا اعتقدنا انها قد عبرت بكل تكاليفها ومآسيها. فالرئيس نبيه بري يدرك كثيراً ما قصدتُ وعنيتُ ولا غبار على أدائه، فنوابه لا يتخلفون عن اية جلسة نيابية لانتخاب الرئيس، ووزراؤه يواظبون على جلسات الحكومة.
وهو يقوم بكل جهد ممكن مستخدماً كل قواه وعلاقاته وموقعه من اجل الحفاظ على لغة الحوار وتحقيق اللقاء الوطني والسعي الى تحقيق المصلحة الوطنية العليا، لكنه وللأسف يصطدم بما اصطدمنا بهم من فريق آخر يعمل بنهج مختلف ويسعى الى عكس ما يريده.
وإذا سئل: ما هي الظروف الإقليمية الضاغطة التي اشار اليها في ندائه، طالما انّ لبنان ينعم بالحدّ الأدنى من استقرار لم تعرفه اية دولة في المنطقة؟ يردّ الجميّل بحدة:
يكون غبياً من لا يفهم ما الذي يجري في سوريا من سَعي الى مشاريع تقسيمية تفتّت السوريين على اساس ديني وعرقي وقبلي وعشائري ولا ندري بعد الى ايّة صيغة يمكن ان تَرسو عليها، والعراق يشكو الوضع عينه لا بل أخطر ولا نعرف ما الذي يجري في اليمن، ومن قال انّ اعتماد عاصمتين فيها صنعاء وعدن قد يتحول امراً واقعاً.
الأعمى وحده - يضيف الرئيس الجميّل- من لا يريد ان يرى، والأطرش الذي لا يريد ان يسمع بما نسمع من متغيرات قد تطال المنطقة. وما يزال بعض اللبنانيين يصرّون على القول انّ لبنان أصغر من ان يقسّم وهو مختلف عن غيره من الدول المحيطة. فمن المؤكد انّ لبنان ليس جزيرة في بحر، وهو ليس بمنأى عن ايّ صراع طائفي او مذهبي. فقد عبرنا تجارب قاسية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كما في الواحد والعشرين وتجربة 7 ايار ما زالت شاهداً على ما يمكن ان نصل اليه.
وعليه، يلفت الرئيس الجميل إلى: انّ هناك من يؤكد ان ما يقوم به، هو بنزعة واضحة نحو الجنون وربما الخيانة. فكيف يمكن لهؤلاء المضي بمواقفهم التعطيلية ولا يرون البلد ينساق الى ما يريده اعداؤنا، ويصرّ على نظريات قد يكون بعضها محقاً ولكن يمكن النقاش فيها في وضع يكون فيها البلد معافى ويعيش حالاً من الترف الذي بات بعيد المنال، ونحن في ظروف متقلبة نعيش فيها احداث اليوم من دون استشراف ما ينتظرنا في الغد.
ويختم الرئيس الجميل بالقول: كلّي امل ان تلقى هذه الصرخة او النداء ما يستأهلان من عناية فنضع جميعنا القطار على السكة. ولا نصرّ على بقائه عند مفترق سكك ومسالك عدة بحيث لا يستطيع أحد قيادته الى برّ الأمان.
وهذا امر لا يتحقق إلّا بالعودة الى القانون والدستور والتقاليد العريقة، ومن بعدها نفكّر بما علينا القيام به من اصلاحات. فالعالم يتغيّر وبعض الدول بلغت الجمهورية الخامسة، فما الذي يمنعنا من ان نفكّر بكل هذه الأمور ولكن في مرحلة من الإستقرار التي علينا السعي اليها أولاً، وقبل اي شيء آخر؟
جورج شاهين