تمهيد:
اقتلاع الشعوب من مواطنها يختلف عن التهجير اختلافاً جذرياً، فالتهجير يتضمن أملاً كبيراً بالعودة، في حين أنّ الاقتلاع يعني طرداً نهائياً، واغتصاباً للأرض وإحلال مستوطنين جُدد في الأرض السليبة.
أولا: اقتلاع "جُرهم" من مكة المكرمة:
أول عملية اقتلاع سكاني في تاريخ العرب حصلت قبل الإسلام، عندما استولى قومُ كنانة وخزاعة على قوم جرهم، الذين كانوا وُلاة البيت والحكّام بمكّة، فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، وكانت الغلبة لكنانة وخزاعة، وجرى نفي جرهم من مكة، فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي ومن معه من جرهم إلى اليمن، وقد أورد ابن هشام في السيرة النبوية قصيدته الرائعة التي يبكي فيها مكة وأيام مكة:
وقائلةٍ والدمعُ سكبٌ مُبادرُ
وقد شرقت بالدمع منها المحاجرُ
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا
أنيسٌ ولم يسمُر بمكّة سامرُ
فقلت لها والقلبُ منّي كأنما
يُلجلجُه بين الجناحين طائرُ
بلى، نحن كُنّا أهلها فازالنا
صُروفُ الدهر والجدود العواثرُ.
ثانياً: الاستيطان الصهيوني واقتلاع الشعب الفلسطيني:
أعلنت الحركة الصهيونية باكراً هدفها في "إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين"، وهذه العملية الاستعمارية تتطلب وتستوجب اقتلاع شعب بكامله من أرضه وإحلال تجمع سكاني آخر محله، وهذا ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية، فاقتُلع الشعب الفلسطيني من أرضه، وتقاطرت جموع المستوطنين اليهود من أنحاء المعمورة لإقامة دولة إسرائيل، بوظائف متعددة،فقد عُزلت آسيا العربية عن أفريقيا العربية، وقامت في قلب المنطقة العربية دولة تمتلك هراوة عسكرية عملاقة، تُستعمل عند الحاجة لتأديب أي دولة عربية تخرج عن طاعة الدول الاستعمارية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.
ثالثاً: الحرب السورية واقتلاع الشعب السوري من مواطنه:
بعد داريا تصاعدت المخاوف من عمليات اقتلاع دائمة للمواطنين السوريين من أراضيهم بشكل نهائي، وازدادت المخاوف من عمليات تطهير عرقي فيما لو تقدّمت مخططات التقسيم واستيلاد دول جديدة، وقد سبق لأمين عام الأمم المتحدة أن نبّه لخطورة مشاريع إجلاء المواطنين في حلب خارج المدينة، وما زالت هذه الكارثة فوق رؤوس الجميع مع تشديد الحصار على المعارضة في المدينة.
في مختلف الظروف، لا زال الشعب السوري تحت وطأة الاقتلاع، فالملايين التي عبرت البحار بعد أن باعت كل ما تملك مع أطفالها لا تفكر مجرّد التفكير بالعودة، والملايين التي استقرت في مواطن لجوئها، وسعت لتأمين سبل العيش، من الصعب أن تعود إلى بلد مدمر، بحاجة ،فيما لو توقف القتال اليوم، إلى عقود من الزمن لإعادة الإعمار، هذا إذا تأمنت الأموال اللازمة. للأسف عمليات الاقتلاع جارية، وهناك من لا يزل يفكّر بمستقبل بشار الأسد، أما مستقبل الشعب والوطن، فيمكن أن يُؤجل حتى يقضي الله امراً كان مفعولا.