الرغبة في التسوية، موجودة ومطلوبة لدى الروسي والأميركي على السواء. لكن الفرق كبير بين الرغبة والقدرة والانجاز. ليس كل ما هو مرغوب يمكن الحصول عليه، خصوصاً إذا كانت دونه حرب أو أكثر، وبحر من الدماء ومساحات مأهولة مفتوحة على الدمار.
موسكو، التي لم تعد تخفي نزولها الى «الأرض» في سوريا، بعد انتشارها في «الفضاء» السوري، بدأت تثقل عليها، المهمة التي أناطت نفسها بها، وهي محاربة «الارهاب» في الظاهر، والعودة الى شواطئ البحر المتوسط من سوريا وتثبيت هذه العودة التي تعيد لها بعض ما تستحقه و»سلب« منها.
أكثر ما يقلق موسكو حالياً، أن تغرق في «فخ» الاستنزاف السوري. ومن بدايات ذلك عدم التوصل الى «تسوية» مع الرئيس باراك أوباما قبل خروجه من البيت الأبيض، حيث «صفارة» بداية النهاية ستكون بعد ستين يوماً من الآن. موسكو تتوقع «الدخول» في مرحلة تصعيدية صعبة ودقيقة مع الرئيس الأميركي الجديد خصوصاً اذا كانت هيلاري كلينتون هي المنتخبة، وهي ستكون على الأرجح، حسب كل معطيات الحملة. هيلاري كلينتون لم تترك وزارة الخارجية فقط لأنها أرادت الدخول في حملة الترشيح الحزبية ومن ثم الرئاسية، وإنما أيضاً لأنها اختلفت مع الادارة الأوبامية وتحديداً حول سوريا. كانت كلينتون تميل علناً الى التشدد مع الرئيس بشّار الأسد ونظامه. وعندما فشلت اختارت الخروج مع المحافظة على علاقات جيدة بالرئيس أوباما الديموقراطي، من الطبيعي جداً أن كلينتون، الرئيسة ستكون لها سياستها ووزير خارجيتها سينفذ هذه السياسة، كما حصل معها أو يرحل، وهي باتفاق الآراء ستكون «سياسة هجومية» لا تصل الى الحالة «البوشية» ولا تبقى «أسيرة» الحالة «الأوبامية».
قلق موسكو الى درجة الخوف من «استنزافها» في سوريا، لا يصل الى حالة الاستسلام فالهزيمة أمام الأميركي. لذلك تعمل موسكو بإصرار على «الالتفاف» على سياسة المماطلة الأميركية بالاستمرار في الحوار والتواصل، وتعتمد موسكو في سياستها هذه على معرفتها بأن الادارة الأوبامية بحاجة لإنجاز في سوريا قبل انتهاء ولايتها. هذا الانجاز يتمثل في تقديم «ملفات جاهزة» للادارة القادمة «تمهد لتسوية تكون لمصلحة واشنطن، أو على الأقل تثبيت وضع «معارضة معتدلة أفضل» وفي أحسن الأحوال التوصل الى وقف اطلاق نار يمهد لمفاوضات تنتج تسويات ايجابية مقبولة من الجميع رغم كل التضارب بين مصالح الأطراف «الغارقة» في «المغطس» السوري إن لم يكن «المستنقع».
تعرف موسكو جيداً، لأنها ممسكة بكامل التفاصيل الميدانية، أن «الصمت الأميركي» عن قوة وليس عن ضعف، واشنطن أصبحت باعتراف المناهضين لها من «الأسديين» و»البوتينيين»، «لاعباً رئيسياً وحاسماً في سوريا، فهي موجودة على الأرض، لديها أكثر من ستماية «مستشار» وعددهم الى تزايد، دون أن يعرضوا أنفسهم للخسائر، وتملك مطارين أحدهما في الرميلان والثاني في جوار عين العرب (كوباني). وتقول مصادر متقاطعة إن الأميركيين دفعوا للأكراد مبلغ ستماية وخمسين ألف دولار بدلاً عن استخدام أكثر من أربعة آلاف دونم. وهم يحضرون لبناء قاعدة شرق الفرات. الى جانب هذا الحضور المباشر، فإن الأكراد قوة عسكرية حليفة موثوقة. وعدد من القوى العسكرية المدربة والمجهزة تحت اشراف من المعارضة المعتدلة، وهي الى تزايد مستمر وثابت رغم المعايير الصعبة المطبقة في ضم «مسلحين» جدد إليها.
هذا الحضور الوازن وغير المحدد والمفتوح للأميركيين على الأرض في سوريا يجعل من الأميركيين «لاعباً حاسماً ورئيسياً خلافاً لباقي الأطراف، وهذا كله يقوّي موقعهم التفاوضي خارج الحسابات الضيقة. الفرق بين الأميركيين وباقي «القوى» المشاركة في الحرب في سوريا سواء كانت دولية أم اقليمية، انهم على الأرض ويتمددون دون خسائر، في حين أن الآخرين يخسرون وخسائرهم تتزايد يومياً.
جون كيري في اجتماعه الأخير مع لافروف ورغم «اعتداله» أصر على أن تبدأ العملية السياسية بعد وقف اطلاق النار وضمن بنود محددة (جرى تسريب التعديلات المهمة عبر ورقة الوسيط الدولي دي ميستورا).
واقعياً، تحسن موقع النظام الأسدي في جبهة حلب بعد إعادة تطويقها، وكان السبب الرئيسي في ذلك سحب المعارضة المقاتلين باتجاه جرابلس بطلب تركي. فوز النظام بنقطة في حلب، جعله ومعه الروس يخسرون الاتفاق الذي كان موعوداً عند لقاء الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين. ومن أبرز ترددات هذا الفشل عدم التوصل الى اتفاق حول أوكرانيا التي ربطت لأول مرة بالملف السوري، مما يرفع منسوب تقديم التنازلات المؤلمة على طريقة «اعطني في سوريا وخذ في أوكرانيا».
قصة «الأرنب» الروسي، و»السلحفاة» الأميركية تتكرر ميدانياً في سوريا. سيصل الاثنان الى خط النهاية. «الأرنب» منهك، والسلحفاة، في حالة جيدة. مسارات التسوية أصبحت مفتوحة، لأن الجميع وصل الى قناعة بضرورة الحل، لكنها ستبقى «معلقة» على التفاهم الأميركي الروسي وهو لن يتبلور نهائياً كما يبدو قبل عام من الآن؟