اذا لم تتوصل المخيلة اللبنانية الى مخرجٍ خلاقٍ ومبتكرٍ من الازمة الراهنة، التي تختلف عن كل مع عرفه لبنان من أزمات منذ الاستقلال وحتى اليوم ، فان إمكان تحولها الى طبيعة ثانية للبنان والى طبع ثان للبنانيين، هو المآل الحتمي الوحيد، طالما ان توسل الوصاية الخارجية قد أخفق، ولم تبادر اي عاصمة عربية او اجنبية الى إرسال مبعوثين للتوسط او حتى التفكر ، وطالما ان التحذير من حرب اهلية جديدة غير مسند حتى الان، برغم انه يصدر من أمراء وخبراء في إشعال مثل هذه الحرب.
الشأن اللبناني بات مقفلاً تماماً. وهذا الامر لا ينسب الى قرار تعليق جلسات الحوار بين قادة الطوائف، التي كانت معلقة ومصطنعة أصلاً ، ولا الى تعطيل الحكومة ومؤسساتها الواحدة تلو الاخرى، التي سبق ان عُطلت فعلياً منذ الخروج العسكري السوري من لبنان قبل 11 عاما.. كما انه لا يعزى الى أي من القوى السياسية، التي لا يبدو انها تخالف مصالحها، ولا تتعرض بالتالي لضغوط شعبية من أجل التعقل والتوصل الى تسوية تحفظ إستمرار عمل الدولة.
حالة اللادولة واللانظام ليست في الاصل استثنائية. وتحولها الى طبيعة ثانية للبنان لا يحتاج الى جهد استثنائي، ولا يمثل تغييراً عميقاً في النموذج اللبناني الفريد، الذي كان ولا يزال يحفظ حالات الفراغ والفوضى والحرب اكثر مما يسجل حالات وجود الدولة وإستقرار عمل مؤسساتها.. التي كانت في الغالب تعتبر قيداً على "الحلم اللبناني" اكثر مما تشكل كانت فرصة لانطلاقه وتطوره.
الكلام عن المسؤوليات مكررٌ ومملٌ. والقول ان المخرج الوحيد هو في تدخل العناية الالهية لخطف الجيل الحالي من المسؤولين والسياسيين اللبنانيين، لا يخدم أي غرض، عدا عن انه يزيد الضغائن ويعمق الاحقاد ويمدد الازمة. هذا فضلا عن ان "العناية الالهية" نفسها لا تعمل بهذه الطريقة الخاطفة، بل بناء على جدول زمني محدد سلفاً ، ولا تقدم خدماتها بالمجان لجمهور لا يختلف كثيراً عن قادته.. ولا يتعهد بان يكون الجيل الآتي أفضل.
لم يعد توسلُ التدخل الخارجي يثير غير الشفقة والشماتة. فقد طرقَ المسؤولون اللبنانيون أبواب واشنطن وباريس والفاتيكان والرياض والدوحة والقاهرة وغيرها عواصم كثيرة، من دون جدوى. ولعل أمل نصف اللبنانيين كان ولا يزال معقوداً على ان ينجو النظام السوري من محنته الراهنة ويعود الى سابق عهده اللبناني، يوازيه الحلم القديم لدى نصفهم الاخر، بان يسقط بسرعة ليتم تدشين عقد لبناني جديد مع خلفائه.
الزعم ان الجمهور اللبناني منزعجٌ من تحلل الدولة ومؤسساتها يتطلب الكثير من الادلة المفقودة. الاعتقاد الشائع هو ان الانهيار الحالي يخفف او على الاقل يؤجل عبء الضرائب والرسوم التي يدفعها اللبنانيون بشكل مباشر والتي تنهب قبل ان تدخل الموازنة العامة، بخلاف ما يجبيه القطاع الخاص لقاء خدماته البديلة. ولعل سكون الشارع هو أقوى برهان على ان العيش من دون دولة ليس مسألة تقليد او عادة، بل هو خيار لبناني واعٍ وراسخ.. وأزمة النفايات لا تدل على عطل في الدولة بل على عطب في الاجتماع اللبناني بوحداته المصغرة كلها. صحيح ان ثمة نخبة لبنانية خائفة من تحلل الدولة ومن تفكك مؤسساتها، ومن المخاطر التي يثيرها هذا الفراغ، لكنها شريحة صغيرة جداً ، غير عابرة للطوائف كلها، وغير قادرة على حشد جمهور كاف لتعديل مسار الازمة، وغير مؤهلة للتأثير على طرف واحد من أطرافها.
هي معنية فقط بان تعلن بان ثمة حياة عامة في البلد، لا أكثر ولا أقل.
الازمة أكبر وأعمق من ان ترمى على اي فريق سياسي او على مجموع الفرقاء السياسيين، المشاركين في الحوار المعلق او الحكومة المعطلة. لكن المخرج لن يكون، كما يشاع، في حرب أهلية جديدة، ليس من السهل أصلا تحديد قواها المحاربة، حتى من بين السنة والشيعة الذين يتربصون ببعضهم البعض حالياً، او من بين المسيحيين الذين أهملهم العالم أكثر من اي وقت مضى. الترهيب بالفكرة لن يجدي نفعاً لا في دفع القوى السياسية الى التسوية، ولا في حفز القوى السلمية على التحرك لتفادي اللجوء الى السلاح.. ولا في استدراج الخارج الذي بات يتقن التفرج على الحروب الاهلية العربية.
العيش في لا دولة لم يكن صعباً على اي لبناني. يبقى ان يقتنع القطاع الخاص بتوسيع مساحة إدارته للشأن العام بقدر أقل من الارباح وبقدر أكبر من المسؤولية.. والاهم من ذلك ان يسلم بالحاجة الى فك شراكته العميقة مع الطبقة السياسية الراهنة، التي تهدده وتهدد الجمهور اللبناني اليوم بحرب اهلية أخرى.