عندما تعود "الميثاقية" الى الجدل فهذا يعني، كالعادة، أن مفعول المشكلة السابقة التي أثارها "التيار العوني"، وليس المسيحيون، قد انتهى، وتلزمه حقنة جديدة، أي مشكلة جديدة، ليتمكّن من مواصلة الصبر والانتظار، طالما أن ضباب استحقاق الرئاسة لم ينجلِ وأن التعقيدات الداخلية والخارجية لا تزال تلعب بأعصاب "الجنرال" تقريباً من الكرسي وإبعاداً عنها.
"الميثاقية" جوهر النظام اللبناني وعماد صيغة التعايش والتوافق بين اللبنانيين. لكن الحاصل في العقدين الأخيرين أن "الميثاقية" باتت مهدّدة ممن يدّعون الدفاع عنها، فالفريقان اللذان يكثران من الحديث عنها - "التيار العوني" و"حزب الله" - انما اتخذاها اداة للتأزيم السياسي، و"الميثاقية" بحسب تعريفها وطبيعتها لا تصلح سوى حق لمن يريد بها حقاً، وليس باطلاً.
المشكلة أن مَن يتقاذفون بـ "الميثاقية" يسعون الى قتلها ودفنها والسير في جنازتها، وأخطر ما يرتكبونه أنهم يجعلون منها صنماً يدعون مريديهم، خصوصاً من الأجيال الجديدة، الى أن يكرهوها ويحطموها. وفي المنعطفين الخطيرين اللذين استخدمت "الميثاقية" فيهما معياراً للتحكيم في الخلافات أسيء اليها وإلى سمعتها بل جُعلت مبرراً لتجديد مناخ الحرب الأهلية. فعندما انسحب الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2006، كانوا يريدون تحصين السلاح غير الشرعي لـ "حزب الله" ومنع اقامة المحكمة الدولية الخاصة بالاغتيالات السياسية التي اتهم بها هذا "الحزب"، ومن ثمَّ كانت الاعتصامات في وسط بيروت واقفال البرلمان ومحاولة تعطيل الحكومة وصولاً الى غزوة 7 أيار 2008، وكل ذلك باسم اعلاء شأن "الميثاقية"، فيما كان الهدف الحقيقي ضربها وإبدالها بـ "خط المقاومة".
وعندما دبّر"حزب الله" و"التيار العوني" انقلاب "القمصان السود" على حكومة الرئيس سعد الحريري في 2010 لم يرد في بال اتباع السلاح غير الشرعي أن "الميثاقية" قد مسّت. ورغم الاحتقان الطائفي الذي أشعله هذا الانقلاب لم تكن "حقوق السنّة" هي المعضلة، ولم يقل سوى الهامشيين أن السنّة "مغبونون"، بل كانت المعضلة في أن البلد والدولة والتعايش أُدخلت عنوةً منطقة الخطر، ولا تزال فيها. لكن، عندما تعثّر مشروع انتخاب ميشال عون رئيساً أعيدت "الميثاقية" الى التداول، لزوم تأجيج المشاعر، مقرونةً بشعار "حقوق المسيحيين".
لا شك في أن الانزلاق الى الشحن الطائفي أسهل وأكثر جدوى شعبوياً لكنه استهتار كامل بالمسؤولية، خصوصاً عندما يبلغ الأمر حدّ مقاطعة حوار وطني وبالتالي التسبب بتعليقه، وقبل ذلك مقاطعة مجلس الوزراء والمجازفة بتعطيل العمل الحكومي، ومن أجل ماذا؟ "الميثاقية"؟ إمّا أن جبران باسيل يمزح وهذا "لا يلبق له"، وإما أنه يستخدم البلطجة السياسية ليمنع التمديد لقائد الجيش، لكن عون لم يصبح رئيساً بعد كي يفرض تعيينات على مزاجه. وكأن "الميثاقية" تحوّلت الى سلاح غير شرعي آخر يشهره "التيار العوني" في معركة الرئاسة.