يبدأ تشكل مُناخ الاستبداد , عندما يُصرّ الجمهور على إعطاء عقله إجازة , ويُصرّ على صناعة الاصنام لتقرّبه إلى الله زلفى , فصناعة الظلم ليست قدرا , لأن الله لا يظلم عباده أبدا , بل هم لأنفسهم ظالمون بما يختارون , ولا يريد الله تعالى للإنسان إلا حياةً كريمة وهو الذي خلق بني آدم وكرّمهم في البر والبحر , وأرسل لهم الانبياء والرسل لأنه لطيف خبير بعباده و وعادل وحكيم , فالعقل يفرض أن يكون الله تعالى عادلا , لأن العدل حسن على كل حال , وحسنه ذاتي لا ينفك عنه , والله تعالى لا يصدر منه الا الحسن .
فالانسان هو الذي يصنع ظلّامه ويصنع المستبدين , وهو الذي يساعد على إستبداد المُستبد , على قاعدة " كما تكونوا يولى عليكم " , والعكس ليس صحيحا كما يحاول البعض أن يتفلسف , ويقول : كما يولى عليكم تكونون , لأن الانسان مكلّف برفع الظلم عن نفسه وعن غيره , في حال وُليّ على الناس مَنْ يجرّهم إلى مهالكهم , فلا يصح القول أن قدرنا هكذا , ولا حول لنا ولا قوة .
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " النساء 97 "
إن قوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم , نزلت في قوم من أهل مكة إعتنقوا الاسلام ولم يهاجروا , منهم قيس بن الفاكهة بن المغيرة ومنهم قيس بن الوليد بن النغيرة وأشباههما , فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع مَنْ قُتِل من الكفار , فقال الله تعالى إن الذين توفاهم الملائكة , يعني ملك الموت وأعوانه , كما قال تعالى : " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكل بكم " (السجدة 11) , وهؤلاء قتلوا يوم بدر وضربت الملائكة وجوههم وإدبارهم , وقالوا لهم : فيم كنتم ؟ أي في ماذا كنتم أو في أي الفريقين كنتم , أفي المسلمين , أم في المشركين ؟ . سؤال توبيخ وتعيير , فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك والظلم , وقالوا كنا مستضعفين , عاجزين في الارض يعني أرض مكة , فقالت الملائكة : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها , اي إلى المدينة وتخرجوا من مكة من بين أهل الشرك والظلم , فكذّبهم الله وأعلمنا بكذبهم وقال لهم : فأولئك مأواهم أي منزلهم جهنم وساءت مصيرا , بمصيرهم العذاب والحساب ولا عذر لهم .
هذا الصنف من الناس هو الذي يصنع المستبدين والظلمة , وهو موجود في كل زمان ومكان , فلذلك عندما يجد الحاكم الظالم أو المستبد , جمهورا أعطى عقله إجازة , وسيطر عليه الخوف , وأذعن للظلم بجج واهية منها أنه ليس قادرا على التغيير ولو بكلمة , يستبدُ أكثر ويظلم أكثر , والناس هي المسؤولة عن ظلمه وإستبداده , وهي التي شكلت له مناخ الظلم , وبالتالي هي التي حولته الى معبود يُعبد من دون الله , فيأمر ويُطاع , فإن فرعون قد إستخفّ بعقول الناس فقال أنا ربكم الاعلى , فلولا هذا الاستخفاف الذي أبداه الناس له , لما وصل الى أن يقول أنا ربكم الاعلى , وقال لهم , لا أريكم ألا ما أرى , فصدقوه وأذعنوا له , هكذا اليوم نحن نصنع ظلّامنا ونصنع حكّامنا المستبدين , ونصنع آلهتنا البشرية , لأننا أعطينا عقولنا إجازة مفتوحة .