..وفي اليوم التالي على تعليق الحوار، بدا أن كل الأطراف تراجع حساباتها، من دون أن يلوح في الأفق ما يوحي بأن «الجلطة الدماغية» التي أصابت الحوار ستولّد شعورا بالذنب أو الندم لدى أهله. لا أحد يستعجل تقديم التنازلات، برغم تسارع العد التنازلي نحو المجهول.
العماد ميشال عون ينتظر ضمانات وتطمينات من الحلفاء والخصوم على حد سواء حتى يعود الى الانتظام في المؤسسات.
الرئيس نبيه بري الذي استهلك معظم «مخزونه الاحتياطي» من المبادرات ينتظر صحوة ما من الآخرين قبل أن يعيد «أرانبه» الى الخدمة.
الرئيس تمام سلام ينتظر إشارات الى إمكانية تراجع «التيار الحر» عن مقاطعة حكومته حتى يقبل بتأجيل جلسة الغد وإلا فهي قائمة.
والرئيس سعد الحريري ينتظر «مكرمة ملكية» سياسية تسمح له بتوسيع هامش خياراته الرئاسية وتخرجه من أزمته المتعددة الأبعاد..
ولعل أخطر ما في توقف الحوار الوطني هو أنه ينطوي على إعلان صارخ عن فشل جديد لمحاولة لبننة التسوية. صحيح أن هذه المحاولة لم تكن مقنعة أصلا في ظل انخراط القوى المحلية حتى العظم بارتباطات وتحالفات عابرة للحدود، إلا أن الحوار كان يرمز بالحد الأدنى الى قشرة رقيقة من «الماكياج» أو الجهد المحلي، توحي ـ ولو من حيث الشكل فقط ـ بأن رؤساء «الدول» اللبنانية لا يتّكلون فقط على الخارج بل يسعون الى إعادة تنشيط «الصناعة الوطنية» للحلول.
لكن، حتى هذا «الوهم» استكثروه على اللبنانيين، وهو الأمر الذي اختصره الرئيس بري بالقول: لقد أثبتنا مرة أخرى اننا بكّرنا في نيل الاستقلال..
سلام يشاور
والى حين معالجة جذور شجرة الأزمة المتفاقمة، ينشغل الجميع بتقليم أغصانها، حيث كان يوم أمس حافلا بالاتصالات السياسية على كل الخطوط، في محاولة لتطويق ذيول وقف الحوار وحماية الحكومة من تداعياته.
وقد أجرى سلام حتى ساعة متأخرة من ليل أمس جولة واسعة من المشاورات، فيما كان «حزب الله» يتولى التواصل مع «التيار الحر».
ويؤكد المطلعون على موقف سلام أنه لا يريد تأزيم الوضع الحكومي أكثر، بل يأمل تهدئته، ولكن ما يريد أن يعرفه هو ما الذي يمكن أن يتغير إذا أرجأ جلسة مجلس الوزراء المقررة غدا، وعلى أي أساس سيتخذ قرار التأجيل، وهل من ضمانة بأن حلاً ما سيظهر خلال الفترة الفاصلة عن الجلسة المفترضة الأسبوع المقبل؟
عون الهادئ
وغداة تجميد عمل طاولة الحوار، اجتمع تكتل «التغيير والإصلاح» في الرابية، برئاسة العماد ميشال عون. كان الجنرال هادئا، خلافا للضجيج في الخارج، وهو الذي يشعر بأنه استعاد زمام المبادرة وتحوّل من موقع إحصاء عدد الانتهاكات للميثاق الى موقع التصدي لها.
يبدو عون وكأنه بدأ بنقل المعركة شيئا فشيئا الى خارج أرضه: قاطع الحكومة.. علق مشاركته في الحوار.. استنفر جمهوره، واحتفظ لنفسه بمواعيد التصعيد المقبل وأشكاله، سياسيا وشعبيا.
وبرغم الهجوم العنيف الذي شنه النائب سليمان فرنجية على الوزير جبران باسيل خلال جلسة الحوار أمس الاول، إلا أن عون اتخذ قرارا بعدم الرد: «لن تكون هناك مواجهة مع فرنجية على طريقة حرب طروادة، ولن أنزلق الى سجال شخصي أو رئاسي معه، وعلى مسؤولي «التيار» أن يمتنعوا عن الرد عليه..».
كما أن عون تلقف بإيجابية موقف رئيس المجلس على طاولة الحوار: «حسنا فعل الرئيس بري بتعليق الحوار بعد مقاطعتنا له، ما يؤشر الى إدراكه لحيوية دور «التيار الحر» في الشراكة الوطنية، ولكن لماذا لا ينطبق على الحكومة ما يسري على الحوار؟».
بري ينكفئ
أما على خط عين التينة، فإن الرئيس بري قرر أن يطفئ «مولّداته» حتى إشعار آخر، في انتظار أن يمدها مجددا بـ «الفيول السياسي»، مؤكدا أمام زواره امس أن الكرة لم تعد في ملعبه، بعد تعليق طاولة الحوار.
ويشير الى أنه بذل في المرحلة السابقة أقصى الجهود الممكنة من أجل إنجاح الحوار، وطرح المبادرة تلو الأخرى لإيجاد مخارج من المأزق القائم، ولكن من دون جدوى. ويضيف متوجهاً الى من يعنيهم الأمر: حتى الأمس القريب، كنت أنا من يبحث عنهم.. بعد الذي جرى، عليهم هم أن يفتشوا علي..
ويؤكد بري أنه لن يدعو الى معاودة الحوار، إلا إذا حصل تبدل في الشكل والمضمون، مضيفا: لا يكفي أن يكتمل الحضور مجددا على طاولة الحوار.. المطلوب أن تتغير الأفكار والمقاربات حتى نتقدم الى الأمام.
ويتابع: أنا الآن أنتظر وأراقب، ولن أبادر الى أي تحرك.. وعندما يصبح الآخرون جاهزين لحوار يكون مجدياً وجدياً، فأنا حاضر، لأنه ليس المهم أن يستأنف الحوار أعماله، بل يجب أن ينتج ويثمر، خصوصا على مستويي رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب.
ويلفت بري الانتباه الى أنه برغم المآخذ على تواضع نتائج الحوار، إلا أنه يُسجل له مساهمته في إشاعة مناخ من الاطمئنان وسط الشلل المؤسساتي، وتسهيل عمل الحكومة من حين الى آخر، إضافة الى قوة الدفع التي أعطاها لقانون الجنسية مشروع اللامركزية، مع التأكيد أن ذلك كله لا يعوض عن إخفاقه في المهمة الأساسية التي ينتظرها منه اللبنانيون وهي التوافق على رئيس الجمهورية وقانون الانتخاب.
ويؤكد بري تمسكه بموقفه الداعي الى التفاهم مسبقاً على مرحلة ما بعد رئيس الجمهورية، لأن من شأن ذلك أن يسهل انتخابه.
ويعرب عن عدم قلقه على مصير الحكومة، مشيرا الى أن الموضوع هو عند الرئيس تمام سلام، كما أبدى اعتقاده بأن الاستقرار الأمني النسبي لن يتأثر بتعليق الحوار.
وردا على سؤال، يعتبر بري أن خيار لبننة التسوية سقط مع توقف الحوار، وبات علينا للأسف أن ننتظر فقط هبوط الحل بالمظلة من الخارج. ويتابع: أخشى أننا وصلنا الى هذه المرحلة من العجز إلا إذا حصلت معجزة.
جنبلاط.. والانتحار!
في كليمنصو، يراقب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط المشهد المعقد والمتشابك، مستعيناً عليه بالطاقة التي استجرها من إجازته العائلية في كورسيكا.
ويقول جنبلاط لـ «السفير» تعليقاً على توقف الحوار بعد مقاطعة «التيار الوطني الحر» له: إن الرهان على الجمود والتعطيل هو انتحار ذاتي، ينعكس على البلد مزيدا من الاهتراء السياسي والاقتصادي.. إنه الموت البطيء الذي تجرنا اليه للأسف بعض القوى السياسية.
وعن شكوى «التيار الحر» من تهميش حقوق المكوّن المسيحي وضرب الميثاقية، يقول: فليسمحوا لي.. أنا أعترض على هذه المعادلة من أساسها، والصحيح أن بعضا من هذا المكوّن المسيحي هو الذي يهمّش نفسه بسبب عناده وإصراره على شروط معينة.
ويشدد جنبلاط على أنه لم يعد ينفع كل هذا اللف والدوران، ولا بد من إعطاء الأولوية لانتخاب رئيس الجمهورية بأسرع وقت ممكن، لان الخطورة تكمن في استمرار الأفق الرئاسي مسدودا وما يرتبه ذلك من تعطيل متدحرج وتداعيات متراكمة، مشيرا الى أن الشغور يشكل بحد ذاته التهميش الأكبر للمسيحيين.
وردا على سؤال حول تعليقه على قول الوزير باسيل بأن غياب الحزب التقدمي عن الحكومة على سبيل المثال يعطلها، بينما تواصل نشاطها في ظل غياب «الطاشناق»، يجيب جنبلاط: لو تغيب حزبي لهذا السبب أو ذاك عن الحكومة فلن أطرح إشكالية الميثاقية لا من قريب ولا من بعيد، وأنا أعني ما أقول، لان التعطيل من أجل التعطيل ليس سوى قفزة في المجهول. ويتابع: أنا لست من هواة الانتحار، ومن يريد أن ينتحر فليفعل ذلك وحده ولا يأخذني معه!