أظهرَت وقائع المفاوضات الأميركية الروسية الأخيرة حول سوريا، أمراً مهمّاً، وهو أنّهما يتفاوضان، داخل سلّة نقاشاتهما، على تحديد ثمنِ رأس أبو محمد الجولاني الذي بات له إسمان حرَكيّان: أمير «جبهة النصرة» المعتبرة فرع «القاعدة» في سوريا، وهي تسمية يُصرّ عليها الروس؛ وأمير «جبهة فتح الإسلام» التي يتظاهر الأميركي أنّه يأخذ بعين الاهتمام إعلانَ الجولاني تغييرَ اسم تنظيمه وقطعَ علاقتِه مع «القاعدة»!
الواقع أنّ الخلاف على ترتيب مكانة «جبهة النصرة» داخل أولوية أجندة الأهداف العسكرية في سوريا لكلّ من موسكو وواشنطن ليس جديداً، ولكنّه الآن فقط، يُثار بشكل يجعله يقترب من أن يكون علنياً.
فطوال الاشهر الماضية التي تلت «هدنة شباط» المتعثرة، لم يتوقف الروس والأميركيون داخل قنوات صلاتهما الخاصة عن تبادل الاتهامات بشكل شِبه يومي، حول قضية ظاهرُها ميداني وتقني وباطنُها سياسي بامتياز.
ومفادُ هذا السجال يقع في أنّ الاميركيين يتّهمون الروس بأنّهم يشنّون غارات على مواقع للمعارضة المعتدلة التي قبلت بهدنة شباط تحت حجّة أنّهم يقصفون النصرة التي لم تؤيّدها. فيما يردّ الروس بأنّهم يهاجمون النصرة فعلاً، ولكنّ الحاصل هو أنّها تختبئ بين صفوف «الفصائل المعتدلة»؛ ما يؤدّي لأن يطاول الأخيرة القصف.
والواقع أنّ تعقيدات هذا الأمر أصبحت أشدّ وطأةً على سلاسة العمل العسكري الروسي والاميركي في الميدان السوري. ويمكن قراءة صورته على النحو التالي: من جهتها النصرة لم توافق على الهدنة التي أرادتها موسكو وواشنطن مناسبةً لفرز المعارضات المتطرفة التي ترفضها من المعتدلة التي توافق عليها، إلّا أنّها تعاملت معها ببرغماتية لافتة، وبالمقابل فإنّ أميركا لم تُبرّئها من الارهاب إلّا أنّها تقاربها ضمن حسابات أنّه لا يزال لها وظيفة عسكرية مطلوبة ضدّ النظام في سوريا.
أمّا موسكو، فتَعتبر النصرة فرع القاعدة في سوريا، وهي نسختُها الثانية كما داعش، وكلتاهما تشكّلان خطراً ليس فقط على أمن سوريا بل على أمن روسيا القومي ايضاً. واشنطن من حيث المبدأ تتفهّم هذا القلق الروسي، ولكنّها تحاول تأجيلَ إعطائه الأولوية، وبنفس الوقت تحاول استثمارَه في تحقيق توازن عسكري بين المعارضة والنظام، وجعله أيضاً مادةَ تفاوُض دسمة مع الروس.
خلال الأيام الخمسة الماضية قرّرَت واشنطن أنّ الوقت أزف لاختبار إمكانية مقايضة رأس ابو محمد الجولاني على طاولة المفاوضات مع الروس؛ وعرضَت على موسكو «صفقة قاسية» كما وصَفها المبعوث الأميركي إلى سوريا مايكل راتني في رسالته الى المعارضة السورية قبل ايام، وجاء في مضمونها انّ واشنطن ستقترح على الروس في جنيف «تحقيقَ وقفٍ للنار في سوريا... يبدأ بانسحاب النظام من طريق الكاستيلو.. وإيقاف القتال في طريقِ الراموسة، ومنعِ النظام من قصفِ مناطق المعارضة حتى لو كانت جبهةُ فتح الشام فيها، ووقف طلعاتِه الجوّية القتالية وإيصال مساعدات غذائية وإنسانية عبر طريق الكاستيلو لا يسمح بتفتيش محتواها إلى حلب»، وذهبت الرسالة في ختامها لإبلاغ المعارضة بأنّ عليها ان تكون مستعدّة لتلبية موجبات هذا الاتفاق الاميركي الروسي لحظة إعلانه وأن تلتزم بوقف النار، خصوصاً أنّه يحقّق أهمّ مطلبين للمعارضة كانت تحدّثَت عنهما مع واشنطن (وهما فتحُ طريق الكاستيلو والراموسة وتحييد سلاح الجوّ السوري).
وحاوَلت الرسالة إبقاءَ الثمن الذي ستدفعه واشنطن لقاءَ هذه الصفقة لموسكو غامضاً، حيث اكتفَت بإيضاح عنوانه العريض الذي جاء فيه أنّه «إذا احترم الاتّفاق (المقصود من قبل الروس) فقد تتبادل الولايات المتحدة المعلومات مع موسكو بما يَسمح للقوات الروسية باستهداف «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقاً)».
وتشي هذه الفقرة الأخيرة بجلاء أنّ الثمن الذي تعرضه واشنطن على روسيا كثمن لاحترامها تطبيق «صفقتِها الصعبة» في حلب واستتباعاً تحييد الطيران السوري (ألخ)، هو إبرام شراكة عسكرية واستخباراتية معها للقضاء على النصرة وتصفية قصة الغموض حول هوية الجولاني كأمير «للنصرة - فرع القاعدة» أم «أمير لفتح الشام» المنفصلة عنها.
وقبل تأكّد واشنطن من تنفيذ موسكو «للصفقة الصعبة» بشكل عملي، وليس فقط الموافقة عليها، فستستمر بالاستثمار بها (أي النصرة) ضمن نظرية يوجد لها أنصار داخل دوَل نادي «أصدقاء الشعب السوري»، ومفادُها أنّ «جبهة فتح الشام» ليست من سلالة داعش والقاعدة بل هي ذات خصوصية سورية في نشأتها، وتشكّل النواة العسكرية الصلبة لكلّ المعارضة العسكرية غير الداعشية. وتؤدّي النصرة وفقَ هذه النظرية دوراً ينشئ توازناً عسكرياً لصالح المعارضة ضد النظام في سوريا.
ويتمّ في هذا المجال تقديم إنجازات «جيش الفتح» التي تشكّل النصرة قوّتَه الأساسية، في شمال سوريا (إدلب وجسر الشغور) وأيضاً في جنوب حلب بدايات الصيف الماضي وبخاصة ضد الايرانيين، كدليل على انّ كسرَ النصرة لن يؤدّي الى هزيمة الارهاب، بل عملياً إلى كسرِ التوازن العسكري لصالح النظام!
غير أنّ تسريبات أميركية كانت سَبقت رسالة رانتي للمعارضة السورية وكلام أوباما عن قرب اتفاق لوقف النار في سوريا مع روسيا، كشفَت عن «تفاصيل الثمن» الذي تعرضه واشنطن على موسكو مقابل موافقتها على ضرب النصرة.
أفادت هذه التسريبات عن وجود مفاوضات تجري بين الروس والأميركيين في جنيف بشأن حلب ووقف كامل للنار، وأنّه فيما لو أدّت الى نجاح كامل على مستويَي صياغة بنودها واختبار جدية تنفيذها، فسيؤدي ذلك الى تطبيق اقتراح اميركي جرَت صياغته تحت مسمّى «وثيقة للتنسيق العسكري» بين واشنطن وموسكو تفضي للقضاء على الفصائل الإسلامية وضمنها النصرة، ويُحدث تطبيقها نقلةً نوعية في علاقات الطرفين بعد سنوات من الخلاف بينهما في سوريا. وتقع عناصر الوثيقة في ثلاثة بنود أساسية:
١- تبادُل معلومات استخبارية لتحديد أهداف القيادة ومعسكرات التدريب وخطوط الإمداد ومقرّات «جبهة فتح الشام»، وقد تنفّذ طائرات أميركية أو روسية ضربات جوّية على تلك الأهداف.
٢- التنسيق الموسّع بين الولايات المتحدة وروسيا يمكن أن يتمّ من خلال مجموعة عمل مشتركة يكون مقرّها في محيط العاصمة الأردنية عمان.
٣- تقيم كلّ مِن الولايات المتحدة وروسيا مقرّاً منفصلاً للعمليات ومكتباً للتنسيق، ترسِل كلٌّ منهما إليه مسؤولين كباراً ورجالَ مخابرات وخبراء في تخطيط الضربات والاستهداف، حيث يتّخذ الجانبان القرار بشأن موعد بدء الضربات الجوّية المتزامنة ضد أهداف «جبهة النصرة»، بمقابل أن تتوقف كلّ الأنشطة العسكرية الجوّية السورية في مناطق محدّدة يتم الاتفاق عليها ما عدا الأغراض غير القتالية.
السؤال الذي يطرح نفسَه على هذا الصعيد هو؛ هل انهارَت فعلاً فرصة إقرار الاتفاق الاميركي الروسي على حلب، والذي يتضمّن مدخلاً في حال نُفّذ بجدّية لإنشاء تنسيق اميركي عسكري استراتيجي في سوريا. أم أنّ محاولات إنقاذه لا تزال جارية، خاصة أنّه بمقابل ما أعلنه الاميركيون عن انهيار الفرصة، لأن موسكو تراجعت عن قبولها ببعض بنوده؛ فإنّ موسكو أعلنَت أنّ الفرصة متاحة لأنّ «التفاوض يحتاج وقته»!؟.
هناك ضمن الإجابة عن السؤال الآنف، تفسيران لمعركة استعادة الطوق المشدّد على حلب من الجيش السوري بغطاء جوّي روسي حاسم، أوّلهما يَعتبر انّها خطوة من روسيا لإظهار قدرتها على الحسم في الميدان، بهدف دفعِ مفاوضها الاميركي في جنيف للتفاوض تحت ضغط أنّه مع موسكو يمكن فرض وقفٍ للنار في سوريا، ويمكن ايضاً تنفيذ خطة حلّ دولي سياسي ملزم.
وعليه يجب مراعاة شرط موسكو بخصوص البدء بضرب «جبهة فتح الشام» منذ إعلان إقرار الاتفاق وليس بَعد تأكّدِ واشنطن من جدّية موسكو بتنفيذه على الارض.
أمّا التفسير الثاني فيؤشّر إلى أنّ موسكو ليست معنية باستعجال إعطاء موافقتها على اتّفاق تُقدّم فيه تنازلات ميدانية حسّاسة بمقابل وعود بإنجازات ليس مضموناً أنّها ستنفّذ، خاصة وأنّ «مقترح التنسيق العسكري الاستراتجي مع روسيا في سوريا» كان قد وُوجِه في أميركا لحظة طرحِه بشكوكٍ حول جدوى تنفيذه، وذلك من قبَل كلّ من البنتاغون والمعارضة السورية على السواء، ما يشي بأنّه مبادرة من المستوى السياسي الاميركي (البيت الأبيض والخارجية) لا تجد حماساً لها من المستوىين العسكري والاستخباراتي الاميركيين.
وعليه فضّلت موسكو الرد بالعودة الى أجندة التصعيد في المنطقة الأهم (إستعادة حصارها لحلب) داخل عرض «الصفقة الاميركية القاسية» على موسكو كما وصفَتها رسالة رانتي، وضمن منطق «إعطاء المفاوضات وقتها»، وأن تجري تحت ضغط النار، خصوصاً أنّها تتعلق بقضية يَحتدم فيها صراع إرادات الدول وتتّصل بمصالح استراتيجية روسية.