مع مؤتمر غروزني، هل نحن أمام بدايةٍ لاختلاف كبير في العالم المسلم السني وبالتالي يؤشِّر إلى الحرب المذهبية الإسلامية الجديدة الآتية في العالم المسلم، وهي أصلا البادئة بوضوح في دولة مثل مصر، بعد حقبة الحرب الأهلية السنية الشيعية؟ أم أن "مشروع" الصراع المذهبي السني السني الجديد لا يملك القوة الثقافية التي امتلكها الصراع السني الشيعي ولا القوة السياسية الكافية في النظام الدولي التي كانت للأخير قبل الاتفاق النووي؟
للاختلافات المذهبية والدينية ديناميات ليست اجتماعية - سياسيّة فقط، أيْ وجود مادة بشرية تعي هويتها المنفصلة، بل أيضا لها خلفية ثقافية في أساس تجديد تراكم الاختلاف وتحويله من وعي اختلافي إلى وعي تصادمي.
أعتقد أن هذا التوصيف ينطبق على التاريخ الحديث للحساسية المتوترة السنية الشيعية. فلطالما تساءلتُ مع "ولادة" الحساسية السنية الشيعية المعاصرة ولا سيما في ربع القرن المنصرم عن مكامن وقدرات القوة الاستشراقية للبناء الثقافي الذي استندتْ إليه مسارات تأجُّجِ الحرب "الأهليّة" المذهبيّة هذه. أقصدُ حجم الانجازات البحثية التي راكمها النظام أو النظم البحثية التي تقودها وتحدد طاقتها الثقافة والأكاديميا الغربيتان، باعتبار هذه الثقافة بمعناها الحضاري لا تعكس فقط التفوق الحضاري الغربي بل ليست لها صفة معاصرة فعّالة حضارياً أو حتى "موجودة" خارج الغرب.
دفعني لهذه الملاحظات انعقاد مؤتمر غروزني غير العادي في العاصمة الشيشانية، في الجمهورية التابعة للاتحاد الروسي، العاصمة المهمة جداً بصورة خاصة لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأنها ترتبط، أي جمهورية الشيشان، بصعوده السياسي الذي بدأ عملياً فيها كزعيم لروسيا ولا تزال مهمة جدا له في معركته العالمية ضد التطرف الإسلاموي.
انعقد مؤتمر غروزني في أواخر الشهر المنصرم أي بين 25 و27 آب وحمل اسم: "المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين".
خصوصية المؤتمر الذي أثار اعتراضات غير مألوفة أنه جمع رجال دين وباحثين إسلاميين من أمكنة عديدة من روسيا والعالم المسلم باستثناء "الإخوان المسلمين" والحركات السلفية.
الحدث في المؤتمر هو مشاركة شيخ الأزهر فيه، لا بل يمكن القول أنه كان عملياً بقيادة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيِّب، الذي ألقى خطاباً صنّف عملياً "أهل السنة والجماعة" بأنهم المذاهب الحنفي والشافعي والمالكي ومعتدلي المذهب الحنبلي أو من أسماهم فقهاء الحنابلة.
خطورة المؤتمر أنه للمرة الأولى منذ بدأت الحرب الأهلية السنية الشيعية ينعقد مؤتمرٌ لا يكون فيه المذهب الشيعي هو مادة الانشقاق. الانشقاق في ربع القرن المنصرم كان موضوعه وهدفه المذهب الجعفري ضمن سياق الصراع الإيراني السعودي. في غروزني للمرة الأولى موضوع الانشقاق من أغلبية المؤسسات التقليدية للمذاهب السنية الأربعة هو التيار السلفي و"الإخوان المسلمون". وإذا كان من الطبيعي أن يثير المؤتمر غضب "الإخوان المسلمين" وزعيمهم الديني الشيخ يوسف القرضاوي، فقد لوحظ أن الاحتجاج عليه صدر أيضا عن مؤسسة سعودية دينية كبيرة هي "هيئة كبار العلماء" التي اعتبرته دعوة للفتنة بين أهل السنة.
من الناحية السياسية، وهي شديدة الأهمية، فمؤتمر غروزني مثّل نوعاً من التحالف الروسي المصري عبّر عنه وجودُ شيخِ الأزهر كمرجع لأبرز مؤسسة في العالم الأكثري المسلم السني.
السؤال الذي تريد هذه المقالة طرحه هو التالي:
هل سيكون مؤتمر غروزني بدايةً لاختلاف كبير في العالم السني وبالتالي يؤشِّر إلى الحرب المذهبية الإسلامية الجديدة الآتية في العالم المسلم، وهي أصلا البادئة بوضوح في دولة مثل مصر، بعد حقبة الحرب الأهلية السنية الشيعية؟ وهل يستطيع التحالف الروسي المصري أن يؤسس لهذا الاتجاه الجديد من دون أن يتبنى الغرب الأوروبي والأميركي هذه السياسة؟ وهل الغرب بعدما تفاقم الخطر السلفي الجهادي على مدنِه نفسها يمكن أن يكون داعماً بشكل غير مباشر أو مباشر هذا الاتجاهَ الجديدَ حتى لو كانت روسيا، منافسة الغرب، وراءه؟
من المفترَض حسب تجربة العقود الماضية، إذا كانت محاصرة الفكر السلفي السني خطاً دوليّاً صاعداً، أن نشهد تراكماً بحثياً في الجامعات الغربية لبلورة وتكثيف علميين لهذا الخط السياسي المستجد؟ مثلما فاضت تلك الجامعات الجادة والتي تقف في أعلى الهرَم البحثي العالمي بأبحاث الانشقاق السني الشيعي.
في القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، اندلعت اشتباكات بين الشوافع والحنابلة في بغداد، وكانت تتجدّد في السنوات اللاحقة. كانت تلك مرحلة ارتبطت بتدخل رجال دين كبار ورجال دولة أكبر بينهم الوزير الشهير نظام الملك.
إذا كنا أمام تحرّكِ فالق مذهبي جديد، سنسمع كثيراً عن تلك الحقبة وحقبات نائمة أخرى من الآن فصاعداً.
لو كانت الأحداث تُحسب بظواهرها لكان مؤتمر غروزني حلقة فكرية من حلقات الهجوم العسكري على "داعش" والتيار التكفيري.
السؤال بصيغة مختلفة: هل الانشقاق السني الشيعي من "الماضي" في النظام الدولي وهل الانشقاق السني السني من المستقبل في هذا النظام بعدما أُنْجِز الاتفاق النووي مع إيران وباتت الموجة الأخيرة للزلزال الاسلامي الأصولي الذي بدأ عام 1979 في طهران، وهي الموجة السلفية، تحتاج إلى ترويض جدي؟
الخلافات بين الدول قائمة دائماً سواء بين دول "سنية" ودول "شيعية" أو بين سنية وسنية كما كان الأمر بين مصر عبد الناصر وإيران الشاه أو بين السعوديين والهاشميين، أو بين تركيا ومصر. لكنّ الحرب المذهبية ولو تماهت واستخدِمت مع مصالح الدول إلا أنها افتتحت في العقود الأربعة الأخيرة "موسم" استخدام العقيدة الفقهية في الصراع السياسي. هذا ما كان عليه الصراع السني الشيعي كصراع مذهبي في العقود الأخيرة. استخدامُ المعتقد في الصراع. وهذا ما يَردُّ به مؤتمر غروزني الذي يعيد تعريف أو يعيد التذكير بالأساس الفقهي لتعريف "أهل السُنة والجماعة" كأكثرية في العالم المسلم في مقابل ما اعتبره اعتداء التكفيريين على جوهر مفهوم الدين ومحاولة احتكار تعريفه.
بهذا، يفرز المؤتمر خارجه، فكرياً، أقلية واضحة.