على الرغم من التفاهمات الجارية على المستوى الإقليمي بشأن سوريا (تركيا إيران وروسيا)، ثمّة استمرار للأزمة التي لم تزل على حالها لجهة انعدام الثقة بين الأطراف الداخلية، ولاستمرار المواجهات في أكثر من منطقة.
وعلى الرغم من الحديث عن بنود تسوية من ضمن اتفاق أميركي – روسي يستند في مضمونه إلى التقدم في التفاهمات الإقليمية تجاه الأزمة، أكثر ممّا يستند إلى وقائع ميدانية تضمن معالجة السبب الحقيقي للأزمة أي استعصاء النظام السوري على فكرة الانتقال من نظام قائم على حكم الفرد، إلى نظام ديمقراطي تعددي. وهو استعصاء موضوعي لإدراك النظام ومؤيديه أنّه عاجز عن إحداث أيّ تغيير نوعي في بنيته، لأنّه يفتقد الليونة وإمكانية تطويره وبالتالي إمّا يبقى كما هو وإما ينهار. من هنا تتفاوت النظرة حيال المرحلة الانتقالية التي تحدث عنها “بيان جنيف” بين الأطراف المؤثرة، ففيما تتمسك إيران ببقاء بشار الأسد رئيسا من دون تغيير، تبدو روسيا أقرب إلى فكرة المحافظة على النظام مع استعداد للبحث في تغيير رأسه لكن في مرحلة متقدمة وليس الآن.
علما أنّ الإدارة الأميركية باتت أقرب إلى الوجهة التي تقول إنّ بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية أمر مقبول لديها لكن يجب أن يترافق ذلك مع إحداث تغيير في بنية النظام بما يتيح مشاركة جدية للمكونات السورية والمعارضة عموما في السلطة، وهذا ما يبدو محل قلق أميركي تجاه الحسابات الروسية بشأن الأسد. فيما تركيا التي توغلت في الشمال السوري باتت أكثر مرونة في مقايضة نفوذها برفع الغطاء عن مجموعات معارضة داخل ما يسمى سوريا المفيدة، كما حصل في داريا وحي الوعر ومعضمية الشام وغيرها من بعض المناطق المحيطة بدمشق.
وكانت نشرت صحيفة “العربي الجديد” الوثيقة التي سيقدمها المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا إلى مجلس الأمن في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر الجاري، والتي تتضمن توصيته لشكل الحل السياسي في سوريا تحت مسمّى الإطار التنفيذي لبيان جنيف. وفي ما يخص مصير بشار الأسد لم تشر مسودة الوثيقة الجديدة إليه بالاسم وإنمّا بيّنت أنه يمكن للرئيس أن يتمتّع فقط بالصلاحيات البروتوكولية خلال المرحلة الانتقالية، كذلك حذف المبعوث الأممي في الوثيقة الجديدة فقرة كانت تشير في وثيقته السابقة إلى وجوب عدم اجتثاث البعث من أجل بناء الثقة، فضلا عن عدم ذكر مسودة الوثيقة المسربة وجود ملاحق، على عكس الوثيقة السابقة.
كلّ هذه التحركات الإقليمية المترافقة مع تغيير في الميدان العسكري ليست نوعية، ولكن تنطوي على محاولة ترسيخ خرائط نفوذ غير متداخلة بين المعارضة والنظام، كما يحصل في الشمال لصالح الجيش الحر وما يحصل في الجنوب لصالح الأسد. فيما حلب لم تزل بين خيار سيطرة النظام عليها أو إعادة حصارها لكن تحت مظلّة الهدنة. وليس خافيا أنّ معارك حلب خلال الأشهر الأخيرة أظهرت، إلى حدّ كبير، عجزا للنظام السوري والميليشيات الإيرانية والقوات الجوية الروسية عن إحكام السيطرة عليها، لا بل أظهرت الوقائع أنّ معارك حلب استنزفت القوات الإيرانية وميليشياتها بما فيها حزب الله بشكل كبير لم تشهده أيّ منطقة سورية.
من هنا فإنّ القيادة الإيرانية العسكرية كانت تطمح إلى إنهاء حلب وقدمت تنازلات لروسيا وصلت إلى حدّ إعطاء روسيا حق استخدام قاعدة همدان، والأرجح أنّ الهدنة ووقف القتال باتا يشكلان في ظلّ التقارب الإيراني التركي، عنصرا ملحا لإيران التي ضمنت، إلى حدّ ما، سيطرتها على العديد من المناطق الاستراتيجية من خلال سيطرة حزب الله على مناطق عدّة في الجنوب.
من جهة ثانية نشرت وزارة الخارجية الأميركية الرسالة التي وجهها مايكل راتني، المبعوث الأميركي إلى سوريا، للمعارضة السورية، السبت، وتضمنت تفاصيل الاتفاق الروسي الأميركي، وذكر راتني الشروط التي تمّ الاتفاق عليها مع الروس، قائلا “على روسيا والنظام إنهاء الهجمات على المعارضة، وإعادة الالتزام بالهدنة، وقد وضعنا سقفا عاليا من الشروط من ضمنها انسحاب النظام من طريق الكاستيلو، وإنهاء القتال حول طريق الراموسة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى حلب، من خلال كل من طريقي الراموسة والكاستيلو، وإنهاء الهجمات والعمليات الهجومية، في جميع أنحاء البلاد، وقلنا إن كل تلك الأمور يجب أن تتم قبل أن تنفذ الولايات المتحدة وروسيا أي اتفاق”.
بين وثيقة ديمستورا والرسالة الأميركية إلى المعارضة السورية بضرورة الالتزام بالهدنة، يمكن ملاحظة أنّ الجهود تتركز على تثبيت الهدنة كمقدمة للدخول في التسويات التي لم تنضج شروط نجاحها بعد. وفي هذا السياق كان لافتا حديث معارضين سوريين وعلى مستوى قيادي لا سيما كبير المفاوضين في فريق المعارضة محمد علوش، الذي دعا إلى انتقال قوى المعارضة إلى نمط حرب العصابات ضد جيش النظام وحلفائه، وهي خطوة تهدف إلى التخفيف من خسائر المدنيين ومن تدمير المدن والبلدات التي تشكل عنوان الأرض المحروقة في سوريا من قبل جيش النظام وحلفائه.
حرب العصابات على الأرجح ستشكل الخيار الفاعل لدى أطراف المعارضة التي تدرك أنّ بنية النظام باتت متهالكة وعاجزة من دون القوة الجوية الروسية والميليشيات الإيرانية. وبحسب مصادر في المعارضة السورية، فإنّ حرب العصابات ستفرض نفسها وهي تنسجم مع فكرة مواجهة جيوش الاحتلال في سوريا، وحركة المقاومة هي الأكثر إضرارا بالعدو والأقل كلفة عسكرية ومدنية.
الثابت في حسابات المعارضة السورية أنّ المعارك طويلة وهي ليست متفائلة بحصول الهدنة، معتبرة أنّ النظام عاجز عن الاستمرار في الاستنزاف وهو يستعجل اتفاقا يضمن بقاءه. وأضافت المصادر أنّ المواجهة لن تكون مع نظام الأسد فحسب بل مع الميليشيات الإيرانية على امتداد الأرض السورية، ولفتت إلى أنّ التنسيق يتقدم مع مختلف أطراف المعارضة لبدء مرحلة عسكرية جديدة تقوم على إستراتيجية مواجهة المحتل وتحرير سوريا كل سوريا.
العرب