سيناريو الهجوم المعاكس باتجاه جرابلس وجوارها بالتنسيق بين المتضررين الكبيرين، داعش والوحدات الكردية، مستبعد حتماً، لأنه سيدمر كل ما بناه صالح مسلم في العامين الأخيرين، في علاقاته مع لاعبين إقليميين ودوليين عديدين، لكن مسلم الذي يقرّر المقاومة حتى النهاية، قبل مغادرة غرب الفرات، يريد أن يبين لأنصاره وحلفائه المحليين أنه لن يتراجع، ولن يستسلم بمثل هذه السهولة، وأنه يريد أن يقاوم، ليساوم لاحقاً على الورقة الثمينة المتبقية بيده في شرق الفرات، في كانتونات القامشلي وعين العرب وما تحت سيطرته في الحسكة، باتجاه بناء الكيان الكردي، حتى ولو تراجعت مساحته في هذه المرحلة.
مشكلاته التركية
مشكلة صالح مسلم الأولى أنه، بنظر الأتراك، يقود حزباً إرهابياً، يعتبر امتداداً لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وأن أنقرة لن تتراجع عن موقفها هذا بسهولة، بل العكس هو الصحيح، فهي تجهد لإقناع حلفائها الغربيين، وتحديدا واشنطن، بما تقوله عبر تقديم مزيد من الوثائق والأدلة التي تثبت ذلك.
مشكلة صالح مسلم الثانية أنه سيفقد قريباً خطوط تماسّ عديدة، كان يملكها في المواجهة مع تنظيم داعش، وأن خياراته باتت شبه محدودة، أن ينافس تركيا على الوصول إلى الرقة، بعدما تكاد الأبواب تسد في وجهه في معركة الباب، لكنه اختار معركة منبج، لتكون القشة القاضية في ضرب علاقاته الجيدة مع أميركا التي تبنته، ودافعت عنه بوجه أنقرة ودمشق، ورجحت كفته على المعارضة السورية المعتدلة.
ورطة "أبو ولات" الأخرى ستكون محاولة إشغال تركيا في جبهتين مرة واحدة في شمال سورية، جبهة منبج التي سيخوضها هو وجبهة الباب التي ستقودها "داعش". ستكون حتماً مواجهة قاسية على الأتراك وحلفائهم السوريين إذا ما وقعت، لكن "داعش" التي تعرف أنها ستدمر هناك، وقد لا تقاتل مرة أخرى كما حدث في جرابلس، وترجئ المواجهة إلى مكان وزمان آخرين. فما الذي ستفعله الوحدات الكردية، وهي التي تعرف أنها ستدفع الثمن الباهظ عسكرياً وسياسياً، كونها ستقاتل الأتراك حلفاء واشنطن بالسلاح الأميركي المقدّم لها لمحاربة "داعش"، وكونها ستفقد ثقة حلفائها العرب والسريان الذين راهنوا على سورية الديمقراطية الموعودة في أدبيات حزب الاتحاد الديمقراطي.
فاجأني أحد الأصدقاء الأتراك المقربين من حكومة "العدالة والتنمية"، وأنا أحاوره في خيارات تركيا وقدرتها على الصمود في مطلب انسحاب القوات الكردية من غرب الفرات، بقوله إن المعركة الحقيقية قد تكون في شرق الفرات نفسه، إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة كردياً، وتعرّضت القوات التركية إلى مقاومة حقيقية من الوحدات الكردية، وفشلت واشنطن في ضبط الإيقاع الكردي، فتركيا ستخوض حرباً على جماعاتٍ إرهابية، كما تصفها هي، تهدد أمنها القومي بالتنسيق والتعاون مع حزب العمال الكردستاني الذي أسس وخطط وأشرف على حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي نفسه، حسب الوثائق التركية التي قد تقبل بها الإدارة الأميركية عاجلا أم آجلا.
صالح مسلم الذي تفاهم مع النظام السوري في الحسكة، وكان يوزع صور جنود أميركيين باللباس العسكري الكردي، ليخيف كثيرين بالدعم الأميركي المكشوف له، وليقنع العالم بأنه اليوم في موقع الوحدات البرية للجيش الأميركي في سورية، يتابع حتما ما ينشر في الإعلام العربي حول اتصالات بعيدة عن الأضواء بين أنقرة ودمشق. قد تكون معلومات صحيحة، وقد لا تكون، لكن الأهداف التركية السورية هي نفسها، على الرغم من كل شيء، حماية وحدة سورية، وقطع الطريق على مشاريع التفتي
حقائق يتجاهلها
بين الخيارات المتبقية لصالح مسلم أن يتراجع، مثلاً، عن مناورات اللعب على تناقضاتٍ محليةٍ وإقليمية تتعلق بالملف السوري، وأن يقلد أكراد شمال العراق فيما فعلوه مع أنقرة. أن يخلع لباس الجهوزية، ليأخذ مكانه في كل مربع أمني وسياسي، تبعاً لحاجات لاعبين محليين وإقليميين، مراهنا على حصة "الأسد" في سورية الجديدة. وأن يقبل حقيقة أن تركيا، على الرغم من كل التناقضات، ومن تعارض المصالح مع اللاعبين الكبيرين، الأميركي والروسي، لا يمكن لها أن تتجاهل ما يحدث في سورية، لأنها الأكثر تداخلاً وتفاعلاً مع الموضوع السوري الذي تنعكس تبعاته على داخلها ودورها الإقليمي. وأن التقاء المصالح مع واشنطن في الحرب على "داعش" والتلويح بالورقة الكردية في سورية لا يعني استعداد الإدارة الأميركية للتفريط بتركيا في بقعةٍ جغرافيةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ واقتصاديةٍ واسعة، حدودها المؤقتة قد تكون شرق الفرات. لا بل إن العقبة أمام الأكراد في سورية الذين يتبنون مقولات مسلم تجاهلهم أن أنقرة تملك أوراق ضغط مؤثرة، مثل استئناف العلاقات مع روسيا الذي منحها ورقةً سياسية إضافية، تستطيع التلويح بها، لتعزيز التعاون مع الروس، وهو ما دفع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى دعوة القوات الكردية الانسحاب إلى شرق نهر الفرات، فكيف ستناقش لاحقاً مسألة السماح بتشكيل إقليم سياسي كردي مستقل، على حدودها مع سورية، يحاصرها من الجنوب بعد شمال العراق؟
ويتجاهل مسلم مشروع المنطقة الآمنة، أو منطقة محظورة الطيران، في جوار جرابلس بعرض حوالي مئة كيلومتر على الحدود، وعمق حوالي 45 كيلومتراً. وأن تسهيل عودة اللاجئين إليها يخدم الطرح الأوروبي والتركي على السواء، وينهي التوتر الحاصل في اتفاقية اللاجئين الموقعة في مارس/ آذار المنصرم، من دون أن تدخل حيز التنفيذ، بسبب الشروط والشروط المضادة بين الجانبين. كما يتجاهل أن لعب تركيا ورقة إخافة واشنطن وموسكو، بدخول قوات الجيش السوري الحر لمنع الانخراط التركي الأقوى في المعركة ضد داعش، قد انتهى مع دخول آلاف المقاتلين العرب والتركمان المعركة.
ويتجاهل مسلم أن تزايد العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني، في جنوب شرق تركيا في الأسابيع الأخيرة، لا يمكن فصله عن حراك حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سورية، بهدف إكمال توصيل الممر الكردي على طول الحدود التركية، وربما حتى المنفذ البحري على شرق المتوسط. ويتجاهل أن يصدّق أكراد سورية أن ما تريده واشنطن من الكرد يتجاوز قتال "داعش"، وهو بناء كيان كردي سوري، فقبلوا بصيغة التعاون، بينما الحقيقة هي التبعية، وليس التحالف. وفرصتهم الأهم هي الضغط باتجاه قبول إشراكهم في مفاوضات جنيف المقبلة، والطريق يمر عبر تغيير أساليبهم في التعامل مع الملف السوري، كما فعلت تركيا تماماً، وهي التي نجحت في سحب ورقة "داعش" من يدهم.
ويتجاهل مسلم أن التفاهم الأميركي التركي الروسي أرجأ المشروع الكردي في سورية، بانتظار إعادة صياغته، فقيادة القامشلي غير قادرة على القيام بما يتعارض عملياً مع الخطط الأميركية والروسية، واليوم التركية والإيرانية، في سورية، والمؤكد أن أموراً كثيرة ستتغير في سورية في الفترة المقبلة.
قال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في اجتماعه مع وفد كردي يمثل حزب الاتحاد الوطني، بزعامة رئيس الجمهورية السابق جلال طالباني، إنه لن يقف في طريق حق الأكراد في تقرير مصيرهم، "على أن نتفاهم في ما بيننا، إما بالبقاء معاً أو الانفصال". وقد تواترت أخيراً نصائح عربية للأكراد، عليهم أن يأخذوا ببعضها، مثل حقيقة أن الحليف الأميركيّ لا يضحّي بالوزن التركي كرمى للوزن الكرديّ. وألا يأخذوا ببعضها، مثل أن الخيار الكردي الوحيد في سورية هو أن يتحملوا طريق الصحراء الطويل، لأنها الخطى التي كتبت عليهم لكي يصلوا، فهناك خيارات أخرى.