تمرّ «داعش» بأسوأ أيّامها. وهذا يستتبع السؤال: هل اقتربت «داعش» من نهايتها في شكل مفاجئ وسريع، كما كانت انطلاقتها مفاجئة وسريعة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمَن الذي سيرث «داعش» أو يكون بديلاً منها؟هناك معطيات عديدة سيقود إليها انتهاء مرحلة الحرب الكبرى في سوريا ودخول الجميع هناك في مرحلة «التصفيات». لم يَعُد خصوم الرئيس بشّار الأسد يطمحون إلى إسقاطه. فهذه مرحلة طُويت. كما أنّ الأسد لم يَعُد يطمح إلى استعادة سوريا كاملة. فمرحلة السيطرة على سوريا انتهت يوم اندلعت الحرب.
قد تستغرق عملية السلام في سوريا سنوات أخرى، لكن ما يجري اليوم هناك هو وضع قواعد فكّ الاشتباك وترسيم الحدود بين مناطق النفوذ المستقبلية: العلويون والشيعة والنظام، مقابل السُنّة بأطيافهم. فيما سيتمّ حفظ موقع للأكراد، وآخر للدروز على الأرجح.
وهذا يعني أنّ هناك حاجة لـ«ترتيب البيت»:
1 - اعتراف القوى الإقليمية والدولية كافة بضرورة استمرار الأسد، سواء لفترة مرحلية أو دائمة.
2 - إنهاء التنظيمات السنّية الموضوعة في خانة الإرهاب وتكوين بدائل مقبولة.
3 - وضع ضوابط لمقدار «الإستقلالية» الكردية، بحيث لا تؤدي إلى تهديد استقرار تركيا وإيران.
لذلك، يأتي تراجع «داعش» في توقيت حسّاس وسياق يوحي بأنّ هذا التنظيم ربما استنفد المهمة التي أنشئ من أجلها.
وتتراجع «داعش» في سوريا والعراق، وتتخبّط في اليمن وليبيا، فيما سحبت تركيا يدها منها، والسعودية تطلب رأسها. وأمّا إيران فلا تريد إظهار أيّ إشارة توحي بأنها استفادت من خدمات «داعش»، وأنها ربما لم تعد مستفيدة من وجودها، هي ونظام الأسد.
ليست ضربات التحالف وحدها هي التي تضع «داعش» في الموقع الضعيف، بل خصوصاً الضربات التي تعرّضت لها من جانب القوى التي لطالما مَوَّلتها أو سلَّحتها أو غطّتها أو نسّقت معها، في آن معاً أو في فترات متلاحقة، وهي باتت معروفة.
وفقاً لبعض التقارير، لم يعد في سوريا سوى نحو 15 ألف عنصر من «داعش»، فيما كان الرقم يقارب الـ45 ألفاً. ومنذ مطلع العام الجاري، تواردت الأخبار عن أزمة التنظيم المالية بسبب الشحّ في الموارد، ما انعكس تقنيناً على المقاتلين، سواء بخفض الرواتب أو المكافآت. وهذا ما يفسِّر موجات الغلاء الفاحش في مناطق سيطرة التنظيم في سوريا والعراق.
وتتزايد التقارير من مناطق سيطرة «داعش» في هذين البلدين عن بروز رغبة جامحة لدى العديد من المقاتلين تحت لواء التنظيم والأهالي في المغادرة، إذا تمكنوا من الإفلات من قبضته من دون عواقب.
والضربة التي تلقاها التنظيم بخروجه من منبج جعلته يترنّح. صحيح أنّ هدف تركيا من دخول الأراضي السورية هو أساساً ضرب الأكراد، إلّا أنّ مرحلة التوافق الخفيّة التي قامت بين تركيا و»داعش» يبدو أنها انتهت، بعدما بدأت أنقرة تعاني دخول الدبّ الإرهابي إلى أراضيها، وانعكاسات المحاولة الانقلابية الأخيرة والأزمة الإقتصادية الخانقة.
فالأتراك هم الذين يسوِّقون النفط لـ«داعش» أساساً، لاستهلاكهم الداخلي والتصدير. لكن التدخُّل الجوي الروسي في الحرب السورية عطّل جزءاً كبيراً من هذه التجارة التي كانت تتولاها الصهاريج التي تنقل النفط ليلاً من مناطق «داعش» إلى تركيا. وبعد التدخّل الروسي، تقلّص إنتاج «داعش» من النفط إلى ما يقارب الـ50 في المئة ثم إلى مستويات أدنى بكثير.
وكانت موسكو تحدثت، قبل «الوفاق» الروسي- التركي، عن صفقات عقدها الرئيس رجب طيب أردوغان وعدد من أفراد عائلته حول النفط «الداعشي». ونشرت وزارة الدفاع الروسية شريط فيديو يظهر مرور الصهاريج عبر الحدود السورية- التركية. وقدَّرت عدد الشاحنات المستخدمة بنحو 8500، تهرّب نحو 200 ألف برميل يومياً، فيما يردّ الأتراك بتزويد «داعش» بالسلاح الذي يحتاج إليه.
ولكن، في المقلب الآخر، كانت «داعش» تنسِّق مصالحها النفطية وغير النفطية أيضاً مع نظام الأسد. وتحدث العديد من المتابعين عن صفقات ميدانية عدة جرت بين الجانبين. وجاءت إفادة عنصر «داعش» المعتقل في الكويت «أبو تراب» لتدعم مقولة التنسيق مع الأسد وإيران.
وكما في سوريا، تراجعت «داعش» في العراق أيضاً. وفي تقدير رئيس الوزراء حيدر العبادي أنّ هذا التنظيم انتهى عملياً وأنّ بقاءه في العراق بات مسألة وقت لا أكثر، وأنّ الجيش يقترب من تحرير الأنبار.
واللافت أنّ «داعش» فقدت أخيراً قيادات أساسية. ففي تموز الفائت قتِل في الموصل أبو عمر الشيشاني المعروف بأنه «وزير الحرب» في «داعش»، وفي الفلوجة قتِل حجي حمزة اليد اليمنى لـ أبو بكر البغدادي. وقبل أيام، قتِل في حلب أبو محمد العدناني المتحدث باسم التنظيم والمسؤول عن عملياته الخارجية. وقد كان من الباقين القلائل على قيد الحياة من مؤسسي «داعش»، مع البغدادي.
يقول البعض إنّ التحالف الدولي لم يرغب في القضاء التام على «داعش» قبل اليوم، لأنّ البدائل منه لم تكن جاهزة. لكنّ الأمر يبدو قيد المعالجة.
وثمة اعتقاد أنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي كان في بداية الحرب على «داعش» حَدَّد مهلة ثلاثة أعوام للقضاء عليها، يطمح إلى تحقيق إنجاز من هذا النوع، بدعم روسي وتركي وإيراني، قبل حلول العام الثالث، أي قبل انتهاء ولايته ومجيء رئيس جديد إلى البيت الأبيض.
وفي تقدير البعض، قد يتمّ الاستغناء عن «داعش» لتتولّى الساحة السنّية قوى سنّية مقبولة دولياً. وهنا يمكن التفكير بالقرار المفاجئ الذي اتخذته «جبهة النصرة» في تموز الفائت عندما بَدَّلت اسمها وأعلنت فكّ ارتباطها مع تنظيم «القاعدة».
فلا يمكن أن تحظى «النصرة» بدعم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، لتكون إلى طاولة المفاوضات مع القوى الأخرى التي ستدير مستقبل سوريا، إذا كانت ستحتفظ لنفسها بتسمية «تنظيم القاعدة في بلاد الشام».
والأرجح أنّ المطلوب اليوم أيضاً هو الانطلاق نحو إنهاء «اليافطة» المسمّاة «داعش». وقد يتم ابتكار «يافطة» أخرى بديلة، تكون مقبولة إلى الطاولة السورية الموعودة، عندما يحين موعدها. فـ»داعش» التي صدمت العالم بولادتها واجتياحها مناطق سورية وعراقية واسعة ستصدم الجميع أيضاً بانتهائها المفاجئ والسريع.
إنّ مصير «داعش» سيكون شبيهاً بمصير «القاعدة» التي كان نشوؤها غامضاً، وأدّت مهمّات ساهمت في صناعة التاريخ الحديث للعالم، قبل أن تسقط بالضربة القاضية. والذين ابتكروا «داعش» وتقاطعت مصالحهم في استخدامها ربما استنفدوا المهمات المطلوبة منها وباتوا يبحثون عن سبيل إلى التخلّص من أعبائها عليهم، كما تنتهي الأدوار دائماً في مجالات الأعمال القذرة.