في شهر كانون الأوّل من العام الفائت، صادفَت "الجمهورية" السيّدة مريم الجمل في أزقّة ميناء طرابلس تلتقط ما تبَقّى من عبوات حديدية فارغة وتبيعها لتعيش، رغم بلوغِها الثمانين. بَعدما سردت مريم حكايتَها، لمسَ التحقيق أصحاب القلوب الطيّبة والأيادي البيضاء فحصَلت على لفتةٍ كريمة منهم شهرياً، بعدما سارَعوا إلى مساعدتها كي لا تنزل مجدّداً إلى الشارع، وساهموا في إبقائها في منزلها بأمان. لكنّ هذه السيّدة الفاضلة استراحت منذ بضعة أيّام ورَقدت بسلام.
مريم، وأثناء حديثها لصحيفة "الجمهورية"، عبّرت عن عجزها عن مدّ يدها، فلجَأت إلى العمل ولو في سِنّ الثمانين، لتجنّي المالَ النظيف، وبعد وفاة زوجها لجأت إلى بيع العبوات الفارغة بعد جمعِها عن الأرصفة ورصِّها، لتبيعَ كيلو التنك بألف ليرة لبنانية، فتحصل على ما يقارب التسعين ألف ليرة شهرياً، وتكتفي بها. وقد علّقت بالقول الشهير: "كرامتي بالدِني لو بدّي موت مِش رَح مِد إيدي".
حين هرولْتُ في العام الفائت إلى الحي العتيق لأخبرَ مريم أنّ شاباً لبنانياً نبيلاً قرأ تحقيقي عنها وهو على متن طائرة تقلّه من أبو ظبي إلى كندا، من مكان عمله إلى مكان إقامته، أدمعت لمّا رويتُ لها كيف استوقفَه التحقيق وتحرّك شيء داخله وأراد من قلبه مساعدتَها لتكمل ما تبَقّى من حياتها مكرّمةً في بيتها المتواضع، وتتوقّف عن جمعِ العبوات لتعتاشَ، وتستريح في منزلها الصغير بكرامة، كما أرادت ومِن دون أن تمدّ يدها.
لم تصدّق مريم أذنَيها، ورَفعت يديها إلى السماء، إنّما ليس للطلب بل للدعاء، وكان دعاء من القلب، فكان لهذا الشاب ما أراد، وكان لقلبها خلال عام كامل الدعم المادي والمعنوي والقليل من الأمان والكثير من الحب، قبل أن يستكين بسلام.
لم تعُد مريم تَجوب الشوارع يومياً، بل استكانت في منزلها. قصدتُها مرّات عدة للاطمئنان إلى صحّتها بعد لقائنا الأخير، وفي كلّ مرّة كانت تخبرني عن أصحاب الأيادي البيضاء الذين يزورونها شهرياً في بيتها المتواضع، وتسألني عن هويتهم، فأجيبها بما تمنّوا علي قوله: "صلّي من أجلهم ولا تنزلي إلى الشارع"... هذه وصيتهم، فكانت تَرفع يديها وتبدأ بالتضرع.
الاستراحة الأخيرة
مضى يومان ولم تخرج مريم من بيتها... الأمر الذي استوقف أهلَ الحي، ولمّا دخلوا المنزل، وجَدوها تَرقد بسلام على كنبتها التي استودعَتها آلامها وأسرارها وآمالها.
اللافت أنّ مريم تركت وصيّة متواضعة خطّتها على ورقة صغيرة تطلب فيها ممّا تبَقّى مِن عائلتها إعادةَ منزلها إلى مالكه، الذي اتّضح أنّه كان يرأف بحالها ولم يتقاضَ منها إيجارَ المنزل منذ سنوات، كما أوصَت له بأثاث المنزل المتواضع فأرادت ربّما من خلال هذا التصرّف التبرّع حتى بفِلس الأرملة الذي تملكه، بكرامة، كعربون تقدير وردِّ جميل لمعاملته الكريمة، من دون أن تنسى شُكر جميع الذين وقفوا إلى جانبها.
( الجمهورية)