أكّد رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، في الكلمة التي ألقاها خلال قداس الشهداء أمس الأول، الثوابت التاريخيّة التي غالباً ما شكّلت الركيزة الأساسيّة للوجدان المسيحي. ووَجّه سلسلة رسائل للقريبين والبعيدين، بدءاً بضرورة انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وسعد الحريري رئيساً للوزراء مروراً بما سمّاه «العطب الاستراتيجي» الذي خلّفه «حزب الله» في تركيبة الدولة اللبنانية وصولاً إلى رَسمه خريطة الطريق لإنقاذ لبنان من آفة الفساد المستفحلة فيه.

مضمون الكلمة ليس وليد الساعة حتماً بل هو نتيجة تراكمات نضجت في فكر جعجع ويجري تداولها في اجتماعاته المتواصلة مع القيادات والكوادر في «القوات اللبنانية»، وقد تحوّلت هواجس وهموم مسيحية تعيش مع جعجع في يومياته، هو الذي أمضى أكثر من نصف حياته في مواجهات عسكرية ونضالية ويتطلّع إلى غد أفضل ومستقر يستحق اللبنانيون أن يتنعّموا به.

وتقول أوساط معراب إنّ جعجع أراد كلمته مباشرة وقوية، لا مهادنة فيها ولا مساومات، حَمّلها سلسلة رسائل إلى الخصوم والحلفاء في آن من دون أن يغفل التذكير بالثوابت المسيحيّة تحت عنوان «عسكري» مقاوم «وكل ما دقّ الخطر...»: «يا أعداء لبنان حدّقوا جيداً في لائحة شهدائنا… ولا تجرّبونا مجدداً...».

تلك كانت الرسالة الأولى وأحداث القاع الأخيرة كانت ماثلة امام عينيه وردة الفعل «القواتيّة» لم تكن متساهلة بتاتاً، إذ ساهمت بفعالية في التصدي للإرهابيين والتخفيف من حجم الأضرار التي لولا تدخل الشباب القاعيين «القواتيي» الانتماء لأدّت إلى خسائر جسيمة، وهؤلاء انضمّوا إلى قافلة الشهداء الذين سبقوهم في مواجهات خلال الحرب وما بعدها.

وها هو جعجع أمام الآلاف من مناصريه يجدّد «نذر» المقاومة والصمود ضد أيّ اعتداء قد يتعرّض له المسيحيون، وهذا قرار لا يحتمل التأويل، لأنّ رئيس حزب «القوات» يعتبر انّ مسيحيّي لبنان يعيشون على خط الزلازل ما يتطلّب منهم الجهوزية والانتظام والإبقاء على روح المقاومة والصمود إلى جانب الجيش اللبناني، وفق أوساط معرابية.

الرسالة الثانية، كانت توجيه أصابع الإتهام إلى «حزب الله» مباشرة بصفته «المعطّل الأساسي» لعملية انتخاب رئيس للجمهورية، وبالتالي دعاه إلى دعم ترشيح العماد ميشال عون بالفعل لا بالقول فحسب، وبذلك أكّد بوضوح انه لن يتخلى عن عون وبَدا كأنه يوجّه إليه رسالة ضمنيّة تطمئنه، مشدداً على إنجاز التفاهم الذي جرى بين الحزبين، حَاضّاً الأطراف المسيحيّة الأخرى على دعمه وخصوصاً حزب «الكتائب».

الرسالة الثالثة، تميّزت أيضاً بالصراحة عندما رشّح حليفه رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري لتوَلّي رئاسة الوزراء بعد انتخاب عون رئيساً للجمهورية، محاولاً إزالة مخاوفه من وصول الأقوياء لأنه «لدينا دستور، علينا كلّنا التزامه، وهو الذي يوزّع المسؤوليات بين المواقع الدستورية في البلد».

الرسالة الرابعة، رفض فيها جلسات الحوار العقيمة وسلال الحلول، فـ«القوات» لم تدخل في هذه المعمعة أصلاً، ولعلّ كلامه عن ضرورة التوصّل إلى قانون جديد للانتخابات النيابية قطع فيه الطريق أمام المستفيدين من اعتماد قانون الستين، علماً انّ ثمّة حوارات جديّة بين أطراف عدة حول قانون جديد قد يبصر النور قبل أواخر السنة.

الرسالة الخامسة، تناول فيها ما سماه «العطب الاستراتيجي» الذي يجسّده «حزب الله» في الدولة اللبنانية التي جعل منها دولة فاشلة بكل ما للكلمة من معنى، وهنا وضعَ جعجع أصبعه على الجرح لأن لا نهاية لأزمة لبنان حتى ولو انتخب رئيس للجمهورية، ما دام «الحزب» يخوض حروباً لا علاقة للبنان فيها، سواء في سوريا أو اليمن أو غيرهما.

وهذه المعضلة التي أشار اليها جعجع لا تقبل نصف حل أو تنازلات، فإمّا أن تكون دولة أو لا تكون، والمسيحيون لن يرضوا باستمرار هذا الوضع بعدما بذلوا كل هذه التضحيات.

ولائحة الشهداء لم تغب عن أنظار جعجع عندما تطرّق إلى موضوع تعطيل «حزب الله» للدولة وثقافة عدم المساواة بين المواطنين اللبنانيين، مُمرّراً أمثلة عن التمييز بين اللبناني الذي يدعم النظام السوري عسكرياً فيصبح بطلاً ولبناني آخر يؤيّد المعارضة السورية يصبح عميلاً!

أمّا الرسالة السادسة فهي أتت رداً على كل من يتهم «القوات اللبنانية» بالتخاذل أمام ملفات الفساد التي تنخر بعظام الدولة. فجعجع يعلم بعمق مسائل الفساد لكن لا تستهويه الوسائل الشعبوية والصراخ في مكافحة الفساد، وهو رئيس حزب تميّز مع وزرائه ونوابه في ممارساتهم بنظافة الكفّ، بل يحبّذ العمل الفعّال الذي يقوم على خطط ومكافحة الفساد من داخل المؤسسات الدستورية وذلك مع أوّل حكومة وأوّل مجلس نواب ينشأ في العهد الجديد، علماً انّ «القوات» تعتبر نفسها في ثورة دائمة على الفساد، خصوصاً انّ معظم محازبيها من طبقة العمال الكادحة التي تعاني مباشرة من الفساد المستشري بكثرة في مؤسسات الدولة وأدائها.

وأخيراً الرسالة السابعة التي لم يخرج فيها جعجع عن أدبيات «القوات» المعارضة دائماً وأبداً لنهج النظام السوري «الارهابي»، وهو الذي ظهر متورّطاً في تفجيري مسجدي التقوى والسلام في طرابلس، والذي سقط ضحيته اكثر من 50 مصلّياً بريئاً بالإضافة الى المئات من الجرحى.

وليست حكاية جعجع مع النظام السوري حديثة، فهو خاض ضدّه أشرس الحروب وحاول هذا النظام التخلّص منه في سجنه الذي دام 11 عاماً، ومن الطبيعي أن يعرف جعجع وسائل النظام السوري وكيفية رعايته للإرهاب.

وليس سراً أن يؤيّد معارضيه ويعدّد ضحاياه من أطفال وأبرياء، وهو بالتالي يدرك انه مع هزيمة هذا النظام قد يُزاح عبء كبير عن ظهر لبنان في طريقه إلى بناء دولة مستقرة وهانئة.

 جورج حايك