كلّ شيء أصبح جاهزاً... وحضّر الرئيس نبيه برّي نفسه للتوجّه الى صور، وصار على وشك التوجّه الى ساحة مهرجان الإمام موسى الصدر. فجأة يرنّ الهاتف... «لقد وقع انفجار في منطقة زحلة»؟!
الخبر مقلق، ذهب برّي بكل حواسه الى منطقة الانفجار، وصارت الأفكار تأخذه وتأتي به. الملحقات الإخبارية شوّشت الصورة أكثر، بسيناريوهات متناقضة تحدثت أولاً عن عبوة ناسفة استهدفت حافلة لحركة «أمل»، ثم عن عملية انتحارية، ثم عن استهداف باص ركاب، ثم عن استهداف سيارتَي جيب. وبعضها تحدث عن قتلى وجرحى... كل ذلك كان يزيد من قلق برّي، الى أن جاءه الخبر اليقين، أسف على المرأة الشهيدة التي سقطت، وعلى الجرحى... إنّها خسارة بلا شك. هي رسالة بلا أدنى شك، ولكن في مطلق الاحوال «إنّ الله قد لطف».
مرّ هذا القطوع، وفي صور تقصّد بري أن يتوجّه الى الحشود امامه بالقول: «لو فيني حَوّل الإحتفال لصلاة شكر لله ولكم كان أحسن شي»... «لقد كان مشهد الناس أمامي مؤثراً، واللهِ... كنت اعني ذلك بكل صدق، أمام هؤلاء الشباب الذين تحدّوا «الرسالة المتفجّرة» وحضروا من كل لبنان».
مرَّ القطوع، تمّ احتواء «الرسالة» ولم ينجح المفجِّرون في أن «يُنغِّصوا» المهرجان. ألقى برّي خطابه ومشى، وفي نفسه تقدير للناس ولمنظّمي المهرجان. ولكن لم يكد يرتاح حتى أطلّ بعض «صيّادي المشاكل» برؤوسهم كما هي عادتهم عند كل حدث. كانوا يحاولون أن «يُنغِّصوا» مضمون الخطاب، ويحرِّفوه ويحرفوه عن هدفه ويأخذوه على غير مقصده!
«إنه أمر مزعج بلا شك، فأن يتعمّد «صيّادو المشكلات» التشويش والحرتقة، والتأويلات، والتفسيرات الهمايونية وغير الواقعية، فهذا دليل ساطع على أنّ هذا البعض لا يفقه أبداً اللغة العربية.
أشرتُ الى «الدلع السياسي» فحملوه كقميص عثمان وصاروا يسقطون هذا التوصيف على هذا وذاك من القوى السياسية، مع أنّ كلامي في هذا الامر كان شديد الوضوح، فقد قلت حرفياً «...على المستوى الوطني أؤكّد أنّ العبور الى الدولة يستدعي وقف الدلع السياسي واعتقاد كل طرف منّا من دون استثناء أنه يملك القرار الوطني أو الفيتو على القرار الوطني».
لم أقصد طرفاً معيناً أو فريقاً معيّناً، لا أريد أن أعلّم اللغة العربية، ولكن عندما قلت «كل طرف منّا» وقلت أيضاً «لنوقف العبث السياسي ولنلتزم الدستور»... معنى ذلك أنّني قد عمّمت على الجميع بلا استثناء ولم أخص أحداً بعينه».
بعض التحليلات كادت تدفع برّي الى «إرسال مترجمين محلّفين من العربي الى العربي لمُطلقيها. قالوا انني لوّحتُ بالشارع... وأنا قلت حرفياً في الخطاب «إنني بمواجهة القوى التي تواصل الانقلاب على مختلف العناوين السياسية، أقول إذا اقتضى الأمر سنواجه كل ذلك بقوة الناس ونقول للجميع إتّعظوا ممّا يدور حولنا»... عندما قلت «بقوة الناس» يعني كل الناس... ونحن مع كل الناس بلا استثناء.
أنا لم أهدّد أبداً بالشارع، ولم ألوّح أبداً بالنزول الى الشارع، مع أنّ كل العالم تعلم أننا خبراء في ذلك». ثم اتبع ذلك بإشارة طريفة الى بعض لم يُسمّهم: «حالهم كحال من يحمل سكين مطبخ، ويأتي ليدعو لاعباً محترفاً بالسيف والترس الى المبارزة».
وهنا يجول برّي على مواصفات بعض «صيّادي المشاكل»: «لا يزعجني من لا يفقهون اللغة العربية، بقدر أولئك الذين ينظرون الى الناس من فوق، ويعتقدون أنهم سلاطين فوق الناس، ويبدون مُنتشين، كأنهم يمضغون «القات» (نبتة يمنية مخدرة) ويسلطنون على فراغ... وبمعزل عن هذه «السلطنة» لنأت الى الجد، فسواء اقتنع هؤلاء أم لم يقتنعوا تبقى «السلة المتكاملة» هي الباب للولوج منه الى الحلول التي لا بد من الوصول اليها في نهاية المطاف.
وأقول لمن لا يريد أن يقتنع: من يملك منكم خريطة طريق متكاملة للخروج من الأزمة تُحقّق الهدف من السلة المتكاملة التي أطرحها، فليطرحها، ونحن على استعداد لتأييدها والسير بها».
وما يُثير الاستهجان لا بل الاستغراب وكل علامات التعجب لدى برّي هي «محاولة اللعب على الكلام وتصويرنا وكأننا نحاول أن نضع شروطاً مسبقة على تشكيل الحكومة. الفرق كبير بين تشكيل الحكومة، وتشكُّل الحكومة. فتشكّل الحكومة هو التفاهم الذي لم يتوافر حتى الآن، وعندما نقول بتشكّل الحكومة، فإننا ندعو الى التفاهم».
وفي رأي برّي أنّ على الجميع الجلوس على كرسي الاعتراف، «لكي نعترف أننا قد تأخرنا كثيراً والوقت يسبقنا وقد أضعنا الكثير منه، دلّوني هل حصل في تاريخ لبنان كله أن انتُخب رئيس للجمهورية من دون تفاهم على تعبيد الطريق أمامه؟ الأمر نفسه بالنسبة الى رئيس الحكومة».
ولنذهب الى الأبعد مدى، يقول بري، ولنفرض أن انتُخب رئيس جمهورية هكذا بلا اتفاق مسبق، وتمّ تكليف شخص؛ سعد الحريري او غيره وأنا شخصياً أرشّح الحريري، وأيضاً بلا اتفاق مسبق على كيفية تأليف الحكومة، فكأننا لم نفعل شيئاً، بل يمكن أن نعقّد الامور اكثر ونصل الى وضع قد يستعصي معنا الحلّ وإيجاد المخرج اكثر ممّا هو مُستعص الآن.
واكثر من ذلك، أنا أجزم من الآن أنّ رئيس الحكومة لن يستطيع أن يؤلف الحكومة. ومعنى ذلك أنّ رئيس الجمهورية سيتفرمل في بداية عهده، وأنّ رئيس الحكومة يُكلَّف ولا يؤلِّف، والدولة تنحدر نزولاً اكثر ممّا هي منحدرة الآن».
هنا يستحضر برّي أيام تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، ويقول: «هل ننسى أننا قد مررنا بتجربة واضحة مع حكومة الرئيس ميقاتي، فقد ترأس يومها حكومة من لون واحد، ومن فريق واحد، ومع ذلك بقيَ أحد عشر شهراً ولم يتمكن من تأليف الحكومة إلّا بعدما بادرتُ أنا شخصياً وتخلّيت عن وزير... فكيف الحال مع حكومة سيدخل اليها كل الاطراف؟».
هنا يتوقف برّي عن الكلام قليلاً ليعود ويؤكد أنّ «8 و14 آذار» انتهيا ودخلا في موت اكثر من سريري. ثم يعود الى الكلام نفسه ويقول: «من المؤكد أنّ «القوات اللبنانية» ستتمثّل في الحكومة المقبلة، فأين سيحسب تمثيلها هل من حصة «8 آذار» أم من حصة «14 آذار»؟.
ثم يضيف: «بالمناسبة نحن نعلم علم اليقين الى أيّ حدٍّ بلغ التفاهم بين بعض القوى السياسية، تفاهموا ليس فقط على المشاركة في الحكومة المقبلة، بل اختاروا الحقائب التي يريدونها من الآن وقالوا إنّ وزارتي الداخلية والنفط من حصتهم وتوزّعوهما في ما بينهم... هذه لك وهذه لي»!
الجمهورية