«لم تغب مدينة الحق والحقيقة طرابلس يوماً عن عيون وبال أعدائها أهل الإجرام والإرهاب المتربصين بها شراً، فشأن الفيحاء كشأن الحقيقة وأهلها دائماً مستهدفة بقادتها ورجالها الأوفياء وناسها الطيبين وبشوارعها العتيقة التي تعرف الكثير الكثير عن فضائح وأسرار الإجرام وأهله ليعود هؤلاء بخطة إجرامية أخرى تستهدف هذه المرة دور عبادة هذه المدينة الأبية وبيوت الله المقدّسة فيها».. عبارة بالغة الدلالة تختصر المشهد برمته استهل بها قاضي التحقيق لدى المجلس العدلي آلاء الخطيب سرد الوقائع الدامغة التي أوردها في متن القرار الاتهامي الصادر بحق المتهمين في جريمة تفجيري مسجدي التقوى والسلام عام 2013، وعرّت إجرام مخابرات نظام الأسد وفضحت إرهابه بالجرم المشهود، بعدما خلص القرار إلى أنّ التحقيقات دلت «من دون أدنى شك على منظومة أمنية مخابراتية عالية الموقع داخل المخابرات السورية أعطت الإمرة وشاركت في التخطيط والمساعدة والتنسيق لإتمام تفجيري المسجدين». 

وإذ تقرر تسطير مذكرات تحرٍ دائم لمعرفة كامل هوية الضباط والأمنيين في المخابرات السورية المتورطين في عملية التفجير ليصار إلى ملاحقتهم، كشفت التحقيقات تورّط 3 منهم بالدليل القاطع وتم الادعاء عليهم وهم النقيب علي محمد علي علي والمسؤول في جهاز الأمن السياسي السوري ناصر جوبان وخضر لطفي العيروني الذي تم تعريفه في القرار نقلاً عن أحد الشهود من أبناء بلدته ربلة في حمص بأنه «يعمل مع المخابرات السورية ومعروف بأنه من الشبيحة التابعين للنظام». 

وفي سرد مطوّل ومفصّل ودقيق (ص 2) لكافة جوانب الأدلة والوقائع المثبتة والمعززة بالتحقيقات والاعترافات وبالكشف الفني لمسرح الجريمة وبتسجيلات كاميرات المراقبة وداتا الاتصالات وبتطابق الحركة الجغرافية لهواتف محضّري ومنفّذي التفجيرين مع مسار السيارتين المفخختين يوم جلبهما من الحدود السورية إلى جبل محسن في لبنان ويوم تنفيذ الجريمة، يوضح مضمون القرار الاتهامي الذي أضاء في أكثر من موضع في متن منطوقه على مدى الحرفية والصدقية العالية التي تميزت بها التحقيقات الأمنية التي أجرتها شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي وأدت في نهاية المطاف إلى كشف خيوط الجريمة، أنّ الجهة الاستخباراتية السورية المخططة لتفجير المسجدين تواصلت مع مجموعتين مقربتين منها في الداخل اللبناني الشمالي لتنفيذ العملية، الأولى مجموعة المدعى عليهم أحمد غريب ومصطفى حوري وهاشم منقارة التي تم بداية تكليفها بالتنفيد بعد اتفاق النقيب علي مع غريب المسؤول في «حركة التوحيد الإسلامي» على الهدف من التفجير ويومه والغاية المرجوة منه وبعض التفاصيل اللوجستية بخصوصه، قبل أن تعود الجهة الاستخباراتية السورية لتكلّف المجموعة الثانية «المنفذة للتفجير» والمؤلفة من حيان رمضان ويوسف دياب وأحمد مرعي وخضر شدود وسلمان أسعد الذين تولوا استلام ونقل السيارتين المفخختين من بلدة سورية حدودية بتسهيل من عناصر أمنية وعسكرية تابعة للنظام السوري إلى منطقة جبل محسن ومن ثم الإقدام على تنفيذ جريمة التفجير المزدوجة عن بُعد عقب صلاة الجمعة. أما في ما خص مؤسس «الحزب العربي الديمقراطي» علي عيد لناحية مسؤوليته الجرمية عن تهريب أحمد مرعي من لبنان إلى الداخل السوري بعدما ثبت ضلوعه في تنفيذ التفجير، فتم منع المحاكمة عنه لسقوط دعوى الحق العام تبعاً لوفاته. 

علماً أنه وفي سياق قراءة مضمون القرار، بدا لافتاً للانتباه ما كشفه في أحد جوانبه من أنّ التحقيقات بيّنت أنّ المدعى عليه أحمد غريب يحتفظ في ذاكرة هاتفه برقم سوري مشبوه (بقضايا أمنية أخرى) 963933157113 الذي حفّظه تحت اسم «الممنوع» وهو الرقم نفسه الذي كان قد استُخدم سابقاً في إرسال رسائل عدة إلى هواتف بعض شخصيات 14 آذار عقب اغتيال اللواء الشهيد وسام الحسن وجاء فيها نص تهديد مفاده أنه «تم اغتيال واحد من عشرة والدور سيلحق بالآخرين».

الحريري

وكان الرئيس سعد الحريري وإثر تبلّغه بصدور القرار الاتهامي قد توجه بالشكر إلى القضاء وقوى الأمن الداخلي وسائر القوى الأمنية والعسكرية التي ساهمت في كشف ملابسات تفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس، معاهداً أبناء عاصمة الشمال بذل كل الجهود اللازمة لإلقاء القبض على المتهمين وإنزال القصاص العادل بهم. وقال أمس في سلسلة تغريدات على «تويتر»: «مع صدور القرار الاتهامي في تفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس، أتوجه بالشكر للقضاء وقوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات وسائر القوى الأمنية والعسكرية التي ساهمت في الوصول إلى هذه اللحظة. إن القرار الاتهامي يسمي بوضوح الضابطين في مخابرات النظام السوري محمد علي علي (فرع فلسطين) وناصر جوبان (الأمن السياسي)، وهو بالتالي يوجه الاتهام المباشر إلى النظام السوري ومخابراته وأجهزته».

وأضاف: «لقد قلنا منذ اللحظة الأولى إننا لن نكلّ عن ملاحقة المجرمين الذين ارتكبوا هذه الجريمة الإرهابية وإننا سنثأر بالعدالة لأرواح شهدائنا الأبرار وجراح الضحايا الأبرياء. وها نحن أخيراً أمام ساعة الحقيقة التي تسطر فيها العدالة مذكرات ملاحقة ضباط وعناصر أمنيي جهاز مخابرات نظام الأسد الذين اعتقدوا يوماً أن أحداً لن يكشفهم ولن يسميهم. وكما عاهدنا أهلنا في طرابلس الحبيبة، فإننا سنتابع حتى النهاية جهود إلقاء القبض على المتهمين وإنزال القصاص العادل بهم، من أدنى قتلتهم إلى رأس نظامهم المجرم».

وختم قائلاً: «رحم الله شهداء الاعتداء الإرهابي على مسجدي التقوى والسلام وشفى المرضى والمصابين وحمى طرابلس الغالية وكل لبنان من شرور القتلة الإرهابيين المجرمين».

.. والطرابلسيون يغرّدون

وتحت هاشتاغ «#الحريري_وعد_وفى» تفاعل اللبنانيون عموماً والطرابلسيون على وجه أخص مع خبر صدور القرار الاتهامي الذي طال انتظاره بحق المتهمين بجريمة تفجيري المسجدين في 2382013 التي أدت إلى استشهاد 50 شخصاً وإصابة أكثر من ثمانمائة وتدمير وحرق المنازل والسيارات المحيطة. وأشادت التغريدات (ص 2) بوفاء الرئيس الحريري بالوعد الذي كان قد قطعه بمتابعة القضية حتى إظهار حقيقة مرتكبيها واتهامهم تحت قوس العدالة، بحيث شدد المغردون على كونه «لم يتنازل عن دماء أهله في طرابلس» وأنه «وعد ووفى وفضحهم.. وصدق اليوم مثلما صدق بالأمس في قضية الإرهابي ميشال سماحة»، في حين لفت بعضهم إلى أنّ «دماء رفيق الحريري حررت البلد وحررت القضاء الذي استطاع كشف جرائم الأسد التي لطالما طُمست في عهد الوصاية».