ليس الاحتفال في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر جديد في سيرة الرئيس نبيه بري، فهو منذ العام 1980 يوم ترأس حركة أمل يطلّ على منبر المغيّب من دون توقف، ويستعرض من خلاله قوة حركة أمل وشعبيتها في مشهد سنوي امتد لـ38 عاماً. في المهرجان الأخير هذا العام حرص الرئيس بري أن يقدم خطاباً مدروساً في كلّ عبارة من عباراته، لم يخرج على النص المكتوب كما كان الحال في سنوات سابقة، اعتاد عليه جمهوره أن يخرج عن المخطوط ليعبّر عن المكنون ولو من باب النكاية أو الطرفة أو المدح حيناً والتعريض في كثير من الأحيان.
لذا ربما كان النص، وبقصد، حمّال أوجه، ويعكس بالضرورة الوضعية السياسية التي وُضع فيها الرئيس بري أو وضع نفسه فيها. لا أحد إلاّ ويتيح له نص الخطاب الإجتهاد في مقاصده، وكلّ يقرأه بما يتناسب مع رؤيته السياسية. تيار المستقبل عبر الرئيس فؤاد السنيورة جيّر المضمون السياسي للخطاب، ولا سيما لناحية الاستحقاق الرئاسي والحكومة، لصالحه، والتيار الوطني الحر تلقّى قبل الخطاب رسالة شفوية من الرئيس بري أنّه لن يتعرض للعماد ميشال عون ومواقفه، فيما حزب الله سمع استشهاد الرئيس بري بـ"أخي" السيد حسن نصرالله وسكِر بمعزوفة الثلاثية التي نقلها بري ليس من الخشب إلى الذهب بل إلى مرتبة الألماس وسمّاها "الثلاثية الماسية".
أعطى النظام السوري من اللسان حلاوة ولكن لم "يتشتش" الرئيس بشار الأسد، وخلص إلى نتيجة أنّ ما يجري في سوريا هو لمصلحة اسرائيل، لكنّه ترك منافذ لإجتهادات في الخطاب تتيح للرئيس بري التفلت من أفخاخ اللغة امام المتربصين، معطياً المساحة لنفسه ليُسمع كل سائل بعد الخطاب مجالاً واسعاً لإجابة ترضي كل طرف أو جهة محلية كانت أو إقليمية. حاله ربما كما قال المتنبي: "أنام ملءَ جفوني عن شواردها / ويسهر الخلق جراها ويختصمُ". هذه ربما غاية الخطاب أن يختصم الناس في تفسيره من دون أن يلزم بري نفسه بتفسير واحد. بل سيدعو من يطالبه إلى مزيد من الإجتهاد في قراءة النص بدل أن يقيّد الخطاب بفهم محدد ونهائي.
لكن وفي محاولة لقراءة الثابت في خطاب الرئيس بري من الناحية السياسية، هي أنّ الرئيس بري كزعيم لفئة واسعة من الشيعة اللبنانيين ورئيس حركة سياسية ومقاومة، وأمام هذا الحشد الذي تجاوز المئة ألف في الحدّ الأدنى و250 ألفاً كحدّ أقصى، من الشيعة اللبنانيين، قال كلاماً لا يحتمل الالتباس. لقد وصف ما يجري من قتال في سوريا بأنّه لصالح اسرائيل. لم يقل أنّ في سورية جبهتان واحدة فيها اسرائيل وأخرى فيها "المقاومة". لم يتبنّ مصطلح التكفيريين. سمّى الخليفة البغدادي باسمه من دون إضفاء توصيفات وتعابير هي من تعابير الفتنة. كان الرئيس بري مغدقاً على أخيه السيد نصرالله بما يشتهي الأخير من كلام جميل حول المقاومة ضد اسرائيل، لكنّه كان بخيلاً في تقديم أيّ عبارة يُشتبه أنّها تعطي شرعية بما يمثله على المستوى الشيعي لقتال "أخيه" في سورية.
هو بالتأكيد لم يطلب بصريح العبارة عودة حزب الله من سورية، لأنّه يدرك أنّ حزب الله نفسه في سوريا بأمر إيراني وربما دولي، ويعلم أنّ مثل هذا الموقف كلفته أكثر مما يحتمل رئيس حركة امل، وبالتالي بخلاف حلفاء حزب الله من التيار الوطني الحر وقوى 8 آذار وغيرهم، لم يعلن تأييده لانخراط حزب الله في القتال السوري. وهذه، على رغم كل ما يمكن أن يقال في الرئيس بري في الإدارة العامة وما يمكن أن يقال عن تورّط مسؤولين في حركة أمل بالفساد الإداري والمالي والكثير من هذا القبيل، إلاّ أنّها تعكس جانبا لا يمكن إلاّ الثناء على موقف رئيس حركة امل فيه، هو أنّه، رغم كلّ محاولات توريطه في إعطاء الشرعية الشيعية لحزب الله في قتاله داخل سوريا، فهو لم يقدمها لإيران حتى لا نقول لحزب الله، بل كان حريصاً طيلة السنين الماضية أن لا يسجل على نفسه أنّه كان شريكاً للحزب في الكارثة السورية.
هذا الموقف يكشف مدى ارتباط الرئيس بري وحركة أمل بالهوية اللبنانية والعربية من دون عداء مع ايران، ويكشف فهماً عميقاً للنسيج الذي يربط شيعة لبنان واللبنانيين عموماً بأهل الشام من حوران الى دمشق إلى حمص والقلمون. هذا تاريخ يحاول الرئيس بري ألاّ يكون، بما يمثّل من الشيعة، شريكاً في تدميره.