صيف عام 2014، أعلن الرئيس سعد الحريري أن الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز منح لبنان مليار دولار أميركي، سيتم إنفاقها على شراء تجهيزات وأسلحة وذخائر للجيش والقوى الأمنية. وفي غضون أسابيع، بدأت تظهر «أهمية» تلك الهبة.

الجيش اللبناني سيستعمل نحو نصفها، لشراء أسلحة وذخائر. وبما أن المورّد الرئيسي لسلاح الجيش منذ تسعينيات القرن الماضي هو الولايات المتحدة الاميركية، بات من «الطبيعي» أن يقصد اللبنانيون واشنطن لشراء الأسلحة المطلوبة. و»المطلوب» هنا لا يعني ما يحتاج إليه الجيش للدفاع عن لبنان في وجه كل الأخطار المحدقة به، بل ما يراه الاميركيون مناسباً لنا. وشاء حكام واشنطن أن المناسب لنا هو طائرات «سوبر توكانو»، فارتضى لبنان شراء 10 طائرات منها بالأموال السعودية. وكانت الهبة تُنفَق حينذاك باتفاق بين الجهة اللبنانية المعنية، ورئاسة الحكومة، والجهة البائعة، على أن يوقّع الرئيس سعد الحريري لعقد أي نفقة.
لم يُكتب لهذه العملية النجاح. فبعد نحو عام و5 أشهر، قرر حكام السعودية التراجع عن الهبة. صفقة شراء 10 طائرات «سوبر توكانو» لم تكن قد أُنجِزَت، فكان متوقعاً أن يسري التراجع عليها أيضاً. لكنّ الأميركيين سرعان ما أبلغوا الجيش أنهم سيقدّمون الطائرات «مجاناً»، أي هبة للبنان.
حتى الآن، لا مشكلة تُذكر، باستثناء أن النظام السياسي اللبناني ارتضى أن يضع الأمن القومي الرسمي بيد الولايات المتحدة الاميركية، متجاهلاً أنها الداعم الأول لعدوّنا الاول، إسرائيل. وبناءً على ذلك، شُرعت الأبواب أمام الأميركيين ليُصبحوا المصدر الاول، وشبه الوحيد للسلاح، وطبعاً، وفق ما يرونه هم مناسباً، لا بناءً على ما يحتاج إليه اللبنانيون. ومُنِحَت واشنطن حق الفيتو على أيّ سلاح يُضاف إلى الترسانة اللبنانية الشديدة التواضع. هكذا كشفت وثائق ويكيليكس كيف تمكّن الأميركيون من «وأد» الهبة الروسية عام 2008، رغم أن المعروض فيها يفوق في تطوره وحاجة لبنان إليه كل ما قدّمه الأميركيون إلى لبنان منذ أن بدأوا «التعاون» مع الجيش اللبناني.

 


المشكلة هذه المرة ليست في هذا وحسب، بل تتعداها إلى الـ»سوبر توكانو» نفسها. ففيها «القنبلة الموقوتة» التي فرض الأميركيون على جيشنا أن يحملها.
فطائرة «توكانو» الأصلية هي طائرة برازيلية بمراوح، تُستخدم للتدريب والمهمات الخفيفة. ونجحت الطائرة في بلد المنشأ في مهمات مثل المراقبة ومنع التهريب وكونها رخيصة وبسيطة وتطير بسهولة على ارتفاع منخفض. في تسعينيات القرن الماضي، بدأ الأميركيون التعاون مع الشركة البرازيلية المصنّعة لـ»توكانو»، فحدّثوها لينتجوا معاً طائرة «سوبر توكانو». والأخيرة هي نسخة محدّثة عن الطراز الأصلي. والفارق الأساسي بين الطرازين هو في نظام الملاحة والنظام الإلكتروني الذي يتيح لـ»سوبر توكانو» أن تحمل أسلحة حديثة ودقيقة، مثل الـ»هيلفاير» وبعض صواريخ «جو ــــ جو» المعدة لإسقاط طائرات المهربين. وفي هذين النظامين تكمن «الفضيحة» اللبنانية. فهذان النظامان يتضمنان كل ما هو حساس في هذه الطائرة. وقد تولى تصميمهما لـ»سوبر توكانو» شركة «إلبيت» الإسرائيلية التي تنتج كمبيوتر الطائرة وشاشات العرض ونظام الملاحة ونظام تخزين المعلومات. باختصار، يُنتج عدوّنا عقل هذه الطائرة. وبسبب هذه الأنظمة الإسرائيلية، باتت هذه الطائرة قادرة على استخدام ذخائر إسرائيلية مثل صاروخ «بايثون» وأغلب ترسانة الذخائر الذكية لدى جيش الاحتلال. وبما أن قسماً كبيراً من مردود مبيعات «سوبر توكانو» يذهب إلى «إلبيت»، فإن الشركة الإسرائيلية باتت تروّج للطائرة وتعرضها على الزبائن.
هل يعرف الجيش اللبناني هذه الحقائق المنشورة علناً أم أنها غابت عنه؟ مصادر الجيش المأذون لها بالتصريح لا تدخل في التفاصيل. تكتفي بالقول إن هذه الطائرات «هِبة، ولا يمكننا وضع شروط عليها، بل علينا قبولها كما هي». لكن ألا يخالف هذا الأمر قوانين مقاطعة إسرائيل؟ ألا يشكّل وجود هذه الطائرة في سلاح الجو خرقاً إضافياً للأمن اللبناني؟ ألا يمكن الإسرائيليين التحكم في أنظمة هذه الطائرة عن بُعد؟ من سيتولى صيانة أنظمة الـ»سوبر توكانو»؟ ألم يكن الجيش يعلم بهذه التفاصيل عندما كان سيدفع ثمنها من الهبة السعودية، أم اننا كلبنانيين لا نملك حرية رفض ما يختاره لنا الأميركيون، سواء كانوا سيقبضون ثمن الأسلحة أو سيقدمونها هبة للجيش؟ وهل كون الطائرات هبة يتيح لنا التغاضي عن فضيحة من مستوى أن شركة إسرائيلية صمّمت أنظمتها الإلكترونية؟ وبعد إتمام الصفقة، من سيقوم بصيانة أنظمة الطائرة؟ هل ستُرسل «إلبيت» موظفين إلى لبنان لأجل ذلك؟ ومن يدرّب الطيارين والتقنيين اللبنانيين على استخدام الطائرة؟
لائحة الأسئلة تطول. أما الإجابات فقصيرة في بلاد التسوّل: «الطائرات هبة، ولا يمكننا وضع شروط على الواهب».