لم يعد باستطاعة السكان القاطنين في محيط بحيرة القرعون تحمّل الروائح الكريهة التي تنبعث من البحيرة. هذا المشروع المائي الضخم الذي استحدث لهدفين، أولهما تأمين سبل الري للمشاريع الزراعية في البقاع الغربي، وثانيهما تفعيل حرفة صيد السمك وتنشيط المنطقة سياحياً، يكاد يتحوّل الى مصيبة، بعد أن كتب القدر له مصيبة اسمها نهر الليطاني، الذي فتكت بمجراه مصيبة التلوّث الكبرى في هذا العصر. قناة الري 900 التي كان يعتمدها أهالي البقاع الغربي لريّ محاصيلهم الزراعي، أقفلت بعدما صار لون المياه المنبعثة منها سوداء حيناً وخضراء حيناً آخر. المشاريع السياحية التي أقامتها البلدية في المنطقة لاجتذاب السياح تكاد تتحوّل الى اماكن تعذيبٍ، اختناقاً برائحة المياه النتنة التي هي حصيلة نفاياتٍ صناعية وزراعية واستهلاكية وكمياتٍ لا تحصى من المياه المبتذلة التي تتخذ من البحيرة مصبها الأخير.
"النفايات الصناعية تتسبب بنسبة 15 الى 20 بالمئة من تلوّث نهر الليطاني وبالتالي تلوّث بحيرة القرعون. هذا ما يؤدي الى تدهور صحي هائل نتيجة التلوّث في المنطقة، في حين أن لا دراسة فعليّة للتأثيرات من الناحية الجرثومية. الرسوبيات مكدّس فيها نسب كبيرة من الكيميائيات الخطيرة التي لا تحلل أبداً، بل تبقى متواجدة بشكلٍ دائم بالنسبة للنهر"، بهذه العبارة يختصر الخبير البيئي الدكتور كمال سليم في حديثٍ لـ"النهار"، واقع بحيرة القرعون، قبل أن يضيف أن "ليس أهالي المنطقة وحسب من يتعرّضون للمخاطر، بل جميع مستهلكي المزروعات التي مصدرها البقاع الغربي والتي تسقى من المياه الملوّثة. هذا يعني ان نصف لبنان يتأثر سلباً من الناحية الصحية". وفي زمنٍ بات فيه الحديث عن المشاكل البيئية في لبنان حرب سيوفٍ دونكيشوتية، في ظلّ تخوّفٍ حقيقي من تلوّث المياه الجوفية نظراً لصخور لبنان الكارستية، وبالتالي امكان وصول التلوّث الى مياه الينابيع حيث أن الحوض المائي الجوفي يلوّث من أصعدة كافة، بات الأجدر نقل الحلول، اذا وجد من يهمه الأمر.
خارطة طريق لتطبيق التدابير اللازمة لمكافحة تلوّث بحيرة القرعون
أعد رئيس المجلس الوطني للبحوث العلميّة الدكتور معين حمزة دراسة تفصيليّة اعتبرت بمثابة خارطة طريق لتطبيق التدابير اللازمة لمكافحة تلوّث بحيرة القرعون على المدى السريع والمتوسط والمستدام. تنشر "النهار" في هذا الاطار أبرز الحلول التي تضمنتها الدراسة .على صعيد الحوكمة تلفت الدراسة الى أنه لا بد من اتخاذ تدابير آتية سريعة من خلال معاينة كلّ مصبات الصرف الصحي مع البلديات ومنع صب المجارير مباشرةً بالنهر من خلال تحويل مجرى الصرف الصحي الى اماكن يتم زرعها بالقصب والنباتات او ما يشابهها قبل ان تصب في النهر بانتظار الانتهاء من انشاء محطات التكرير. اضافةً الى عدم السماح بوصل اية خطوط او شبكات مجارير جديدة في المناطق التي لا يوجد فيها محطات تكرير خصوصاً في المناطق القريبة من نهر الليطاني. ومن الضروري فرض انشاء جور صحية للوحدات السكنية، وفق النصوص القانونية النافذة في البلدات التي يتعذّر حالياً شركها بالصرف الصحي وتأمين تفريغ هذه الجور وايصالها الى محطات التكرير.
ويتوجّب العمل على تشغيل المحطات الموجودة على جانبي النهر وفقاً للقوانين والانظمة المرعية الاجراء والتأكد من ان المحطات تعمل بقدراتها القصوى وذلك عبر استكمال جميع الشبكات والوصلات المنزلية. هذا فضلاً عن تنظيف مجرى النهر خصوصا تحت الجسور وإزالة العوائق من النهر والروافد منعا للفيضانات. وضرورة استحداث لجنة من الادارات المعنية تتمتع بصلاحيات مباشرة وصفة الادعاء لمنع التعديات على البحيرة ونهر الليطاني كما ومنع رمي المخالفات والأتربة وعدم تصريف المجارير فيها. كما لا بد من استمرار أخذ وتحليل العينات لجهة نوعية المياه، حيث تقوم المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بهذا العمل منذ العام 2006 وبشكل مستمر، بما في ذلك استخدام الصور الفضائية في عمليات المراقبة ضمن الحوض.
أما التدابير التي لا بد من اتخاذها على المدى المتوسط، فتترجم بتفعيل ودعم القطاع الخاص والبلديات لانجاز مشاريع صحية وبيئية، واعادة النظر بمخطط استعمال الاراضي في حوض الليطاني بناء على المخطط التوجيهي العام لاستعمال الاراضي ومتابعة حسن تطبيقه. ناهيك عن الطلب من الجهات المولجة تطبيق سائر المقترحات بعد توضيح الصلاحيات حيث يلزم، وتحديد الجهات المولجة بمراقبة حسن التطبيق، والبت بالآلية الأنسب لتأمين تكاليف التشغيل والصيانة. والترويج والاعلان لهذا العمل عبر وسائل الاعلام. واقرار مشروع قانون المياه وتسريع استصدار المراسيم التطبيقية للقانون بما في ذلك شرطة المياه، واقرار مشروع قانون النيابة العامة البيئية. وتتمثّل التدابير التي يجب اتخاذها على المدى المستدام باعتماد مبدأ الادارة المتكاملة للمياه بحيث تعطى صلاحية الادارة لجهة واحدة مختصة تحت وصاية الوزارة التي تنبثق منها هذه الجهة بتصديق كلّ القرارات الاساسية الصادرة عنها على ان تكون كلّ قراراتها واعمالها ضمن المخطط التوجيهي العام وعلى ان تنسق هذه الجهة مع سائر الجهات المعنية كلّ ضمن مسؤولياتها وهذا يستدعي تعديل بعض النصوص التنظيمية.
النفايات الصلبة والمياه المبتذلة
تلفت الدراسة الى أنه لا بد من تشغيل وصيانة مطمر بعلبك، وانشاء مركز لتعقيم النفايات الطبية في بعلبك وتأمين شاحنات ونقل مستوعبات وقيام سائر البلديات في قضاء زحلة بالتخلص من نفاياتها في مجمّع زحلة لمعالجة النفايات الصلبة. اضافةً الى التخلّص من النفايات الطبية الصادرة عن المستشفيات في قضاء زحلة عبر ارسالها الى مركز تعقيم النفايات الطبية في زحلة وتوسيع معمل فرز وتسبيخ النفايات في جبّ جنين وانشاء معمل فرز وتسبيخ ومطمر صحي في بر الياس وانشاء محطات ترحيل ومعامل فرز وتسبيخ ومطامر صحية اخرى. فضلاً عن ضرورة اقفال المكبات العشوائية في الحوض واعادة تأهيلها الى جانب معالجة النفايات في المؤسسات الصحية. وفيما يتعلّق بالتدابير على المدى المتوسط للتخلص من المياه المبتذلة المنزلية، تشير الدراسة الى ضرورة تطبيق الاستراتيجية الوطنية لقطاع الصرف الصحي المعدة من قبل وزارة الطاقة والمياه والمخطط التوجيهي المعد من قبل مجلس الانماء والاعمار بما يعود لمنظومات الصرف الصحي الواقعة ضمن حوض نهر الليطاني مع اقتراح عدم الموافقة لاية بلدية بانشاء محطات صغيرة غير ملحوظة ضمن المخطط.
على صعيد القطاعين الصناعي والزراعي
وتسلّط الدراسة الضوء على التدابير الآنية السريعة لنفايات المؤسسات المصنفة، والتي تتمثّل بالالتزام البيئي للمنشآت لجهة تحديد الأولويات في ما يتعلق بالقطاع الصناعي واستكمال التحضير لمشروع مكافحة التلوّث المركزي المصدر الذي سيموّل من البنك الدولي ومن شأنه تأمين قروض ميسّرة للالتزام البيئي للمنشآت. وتتمثّل التدابير على المدى المتوسّط بتنفيذ مشروع مكافحة التلوث المركزي المصدر بدءاً بالمؤسسات الصناعية والعمل على تشريع الاصلاحات البيئية النقدية كتسهيل اضافي للمؤسسات المصنفة. هذا اضافةً الى الالتزام البيئي للمنشآت بما في ذلك منح شهادات بيئية الى المؤسسات الملتزمة وفرض أشد العقوبات للجهات غير الملتزمة. وفيما يخصّ التلوّث الناتج عن القطاع الزراعي، تلفت الدراسة الى ضرورة الارشاد الزراعي مكثّف وصولاً الى تقليص استعمال المبيدات الزراعية والاسمدة بمراقبة وزارة الزراعة. وتقول الدراسة بضرورة بناء وتقوية القدرات في مجال الادارة المتكاملة للمبيدات على المدى المتوسّط، وتحديد المشاكل الفنية والقيود على انتاج وتصدير المحاصيل المختارة ودعم تركيب واستخدام وسائل الري الفعالة والتكنولوجيات لتجنّب التسرب الزائد والملوحة، ودعم نظم تغذية النباتات المتكاملة والمحافظة على التربة على مستوى المجتمع الزراعي.
المصدر: "النهار"